تقرير: نقاء شيت
وصار لنا في الضاحية مزار، عبقٌ من طهر المقام، وريحٌ من أريج الجنّة، ترابٌ ينبت أقحواناً أحمراً قانٍ؛ فلونه اليوم مأخوذ من دمٍ طاهر وهو دم الأمين المؤتمن، سماحة العشق، واليوم بات سيّد شهداء الأمّة.
عدنا للضاحية وفي القلب انكسارة حزن وغصّة وألم، وكان المقصد مكان الارتقاء الشريف. اليوم نعرف أين أنت، يا سرّاً من أسرار الله. عشت بيننا ومعنا لسنوات، وما عرفنا لك مكاناً. اليوم فقط عرفنا وأيقنّا أين كنت وأين ارتحلت. قصدنا مكان الاستشهاد، وكلّ شيء هناك يحدّثنا عنك، عن عزّتك، عن صلابتك، عن كلماتك الأخيرة، ونظراتك، عن توجيهاتك وكلّ أوامرك، حبّك للناس وخوفك عليهم وإشفاقك على حالهم.
* أصبحنا أيتامك
رغم كلّ مكانة الضاحية، إلّا أنّ هذا المكان في حارة حريك صار الأحبّ إلينا ومكان اجتماع قلوبنا، ففيه عبق ريحك، وصدى صوتك، وروحك تطوف هناك، تحتضن كلّ الحاضرين، فجميعنا اليوم يتاماك بفقدك يا أبانا، وكلّنا ننتظر منك أن تمسح على رؤوسنا وتضمّد جراح اليتم بعدك، لتخبرنا أنّك هنا، معنا، ما برحت الضاحية يوماً ولن تبرحها، نكمل لمسيرة بدأتها منذ أعوام، وصولاً للقدس والصلاة بنا هناك.
وصلنا مكان الاستشهاد، واكتظاظ الناس لم يفاجئنا، فهذا هو المتوقّع من أبناء نصر الله، أن لا يتركوا أباهم حتّى بعد شهادته، فهو الذي آثر نفسه وروحه دفاعاً عنهم وعن أرواحهم وأنفسهم. عادوا إليه يفترشون تراباً ارتوى دماً طاهراً من جسده المبارك، وهواء تعطّر بشذى ريحه الطيّب، وأنفاساً اختلطت بأنفاسه الأخيرة، ملبّين حضوره كما في كلّ مرة، مردّدين كلماته، رافعين صوره، منتظرين أن يطلّ عليهم من بين الركام بخطاب النصر والتبريك، أن "يا أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
* ضجيج المكان
لقد كان السيّد الشهيد في قلب الضاحية الجنوبيّة، في حارة حريك، يعقد اجتماعاً لقادة في المقاومة الإسلاميّة في إحدى المجمعات هناك، فاستُهدف المكان بغارات شنّتها مقاتلات إسرائيليّة من طراز "إف -35"، كما ألقى العدوّ نحو 85 قنبلة خارقة للتحصينات تزن كلّ واحدة منها طنّاً من المتفجّرات عبر طائرات من السرب 69. وهذا يوضّح عمق الحفرة هناك، التي تتراوح بين 50 إلى 70 متراً تحت الأرض.
هذا العمق الذي حفر في الأرض ليصل إلى سماحة المؤتمن، لم يتّسع لأعداد الوافدين لزيارة المكان، والتبرّك به، مشعلين شموع الحبّ والنذور، وكلّ أصوات نذورهم تصدح، أن "يا ربّ أعد لنا نصر الله، ونذراً لك الروح قرباناً في ساحات العشق والشهادة والجهاد، لا نكلّ ولا نملّ حتّى ظهور قائمنا المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف".
المكان هناك ممتلئ باللون الأحمر، وكأنّ دماءه طهّرت كلّ المكان وأنارت دروب الوافدين إليه، صوره تعلو كلّ الأبنية، فاليوم نحن نعرفه هنا بيننا ومعنا، وهو باقٍ في قلوبنا، فأينما مال نظرك هناك فثمّة نصر الله، وصوته يملأ المكان، يشعل فينا وفي الحاضرين عزيمة للبقاء والاستمرار، وانبلاج نصر مشعّ بنور وجهه المشرق في كلّ الساحات.
ومع الانتظار، تسمع كلام المحيطين بك، كلّهم عائد بلوعته، فمنهم من فقد الأب ومنهم الأخ، ومنهم الزوج والولد، وكثيرون فقدوا عائلة بأكملها، غير أولئك الذين قدّموا منازلهم وبيوتهم في هذه الحرب، والكلمة والتمنّي واحد، خذوا أرواحنا، وأعيدوا روحه بيننا، وليقف ها هنا يخطب فينا، ولتسمحوا لنا لمرّة واحدة بعد بالنظر إليه، إلى نظرته، إلى ضحكته، وصدى صوته، فلا صوت يعلو فوق صوته وصداه.
* قبلة المحبّين
التفتّ حولي فوجدت مجموعة شبّان صوّبوا وجوههم ناحية القِبلة، افترشوا التراب محراب صلاة، وجمعوا الحجارة سجدات طهر. فاليوم، حسب قولهم، صار لهم في الضاحية مقام، قبر ومزار، لوليّ طاهر من سلالة الأطهار.
وفي ناحيةٍ أخرى، أطفال حملوا صور السيّد، وهتافاتهم ما سكتت "لبّيك يا نصر الله"، هم فرسان الشهادة في المستقبل، أشبالٌ وكشفيّون في كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، يقول عليّ، برعم كشفيٌّ واعد: "استشهد أبي في المواجهات وقلت: فداء لنصر الله، لكنّني اليوم أقف مكان استشهاد والد الأمّة. نحن فعلاً أيتام فقدنا أبانا الأوّل والأخير، فمن يضمّد جراح الفقد على طول السنين؟ لذلك نحن نعاهده أنّنا أبناؤك الذين سيسرون على درب المقاومة والجهاد".
"فدا السيّد"
اليوم، وبعد مرور أكثر من ستّين يوماً على الاستهداف، تقصد المكان، ترى أغلب الوفود يضعون كمامات، فكمّيّة البارود ورائحة المتفجّرات والقذائف السامّة هناك ما زالت حتّى اللحظة، وكأنّ العدوّ صبّ كلّ حقده في تلك الحفرة ذاك اليوم.
وما زالت هذه العبارة، "فدا السيّد"، ورغم ارتحاله تلازم كلّ لسان شريف، فكلّ من فقد شيئاً في الحرب يقولها بملء فمه: "فدا السيّد، بس يرجع". لكن الآن زاد عليها نداء "فدا روح السيّد وفدا المقاومة".
دموع الحزن والفقد اختلطت بمباركات النصر، الذي تغذّى بدماء السيّد الشهيد وكلّ الشهداء الذين قضوا في هذه المسيرة المباركة، ولكنّ عزيمة المقاومين وأهلهم وبيئتهم ما انهزّت ولا هانت رغم عظيم التضحيات، بل كانوا مصداقاً لما قاله فينا روح الله والسيّد عبّاس الموسوي وكرّره سماحة السيّد نصر الله: "اقتلونا، فإنّ شعبنا سيعي أكثر فأكثر". فنحن شعب كلّما فقد قائداً، زاد إصراراً على المقاومة والأخذ بالثأر والجهاد في سبيل الله لتقديم المزيد من التضحيات، فلا هوان لأمّة كان فيها نصر الله.
هذا المشهد المهيب والعظيم، استمرّ لأيّام في مكان ارتقاء سماحة المؤتمن، والجموع حتّى اليوم لم ترَ الجثمان الطاهر بعد ولم تلامس حقيقة الأمر، ولم يُحفر له قبر أو يُنصب له مزار حتّى، فكيف ستكون الجموع يوم تشييعه المبارك؟!