اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة

وفق بيان سماحة العلامة الشهيد السيد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه)
السيّد علي عبّاس الموسويّ


اعتنى العلّامة الشهيد السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) عناية خاصّة بنصوص نهج البلاغة، وعمل لمدّة متمادية من الزمن على مراجعتها وشرحها ومناقشتها، فتكوّنت لديه رؤية خاصّة من الفهم معتمدة على قواعد منهجيّة. نعرض في هذه السطور لبعض خصائص هذه الرؤية التي أسّس بنيانها وعمد إلى تطبيقها في مجالات مختلفة، والمجال الذي سوف نتعرّض له هو المجتمع، الذي يتكوّن من عنصرين: الفرد والجماعة.

* الخطاب العلويّ على مستوى الفرد
وجّه الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة خطاباً للفرد بوصفه عنصر التكوين الاجتماعيّ. وقد تنوّع أسلوب البيان عنده عليه السلام في لغة الخطاب أو في الإرشاد إلى أسلوب التعامل مع الفرد، ونلحظ ذلك في الآتي:

1. المنطق والعقل: عندما يتوجّه الإمام عليه السلام بالخطاب للأفراد، يعتمد في أحد أساليب بيانه على الجذب، لإظهار أنّ العمل بالحقّ يعود بالنفع والمصلحة الشخصيّة على الفرد. ففي شرحه لكلام أمير المؤمنين عليه السلام: "وإِنَّهُ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ الْحَقُّ يَضُرُّهُ الْبَاطِلُ، ومَنْ لَا يَسْتَقِيمُ بِهِ الْهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلَالُ إِلَى الرَّدَى"(1)، يقول السيّد الشهيد صفي الدين: "من لطيف الاستدلال في سياق الوعظ هو استخدام الإمام عليه السلام للمنطق والعقل، وإن كان بدافع المصلحة التي تعود على الفرد، حين أشار إلى أنّ من لا يتّبع الحقّ لأنّه لا ينفعه بحسب اعتقاده، فهذا لا يعني أنّه سينجو من الباطل وآثاره. وفي السياق نفسه، من لا ينتفع بالهدى، فإنّ الضلالة سوف توقعه في المهالك".

2. مواجهة الانحراف: من الأساليب العلويّة الحسم في مواجهة الفرد المنحرف عن الهدى والتعنيف في مخاطبته، فمن كلام له عليه السلام قاله للأشعث بن قيس، وهو على منبر الكوفة يخطب، حيث اعترض الأشعث على كلامه عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض عليه السلام إليه بصره، ثمّ قال: "مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟! عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ ولَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ، مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ"(2).

يقول السيّد الشهيد في شرح ذلك: "من الضروريّ اتّخاذ موقف حازم تجاه بعض الأشخاص، وبه تُفسّر الشدّة والقسوة في مواجهة الإمام عليه السلام لكلام الأشعث؛ وذلك لأنّ خطر كلامه يصل إلى تشكيك الناس بالإمام، لأنّه بكلامه يريد إدانته عليه السلام والقول إنّه لا يصلح للإمامة. كما أنّ الوقاحة تستدعي الردع لا الحجّة والبرهان.

3. لحاظ طبيعة الفرد: لقد خاطب الامام عليّ عليه السلام ابن عبّاس قبل معركة الجمل قائلاً: "لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ، وَيَقُولُ هُوَ الذَّلُولُ، وَلَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ؛ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ، وَأَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا؟!"(3).

يبيّن السيّد الشهيد في تعليقه على هذا الكلام: "أراد الإمام عليه السلام من إرساله لابن عبّاس أن يحقّق هدفاً، وهو تحييد الزبير عن ساحة المعركة ومحاولة استمالته. ثمّة أرجحيّة للزبير بأنّه ألين عريكة، وفيه قابليّة التفاوض والاستمالة، بينما طلحة لم يكن عنده تلك القابليّة، وقد يُفهم من إرسال السفير إلى طلحة بنحو سلبيّ، وأنّ له شأنيّة ممّا يجعله يتكبّر ويترفّع ويتشبّث أكثر برأيه".

* الخطاب العلويّ على مستوى الجماعة
يظهر أسلوب تعامل الإمام عليه السلام مع الجماعة من خلال اعتبارات عدّة:

1. الرابط العقديّ: من كلام له عليه السلام لمّا أظفره الله بأصحاب الجمل: وقَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ، فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟"، فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَدْ شَهِدَنَا ولَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وأَرْحَامِ النِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ ويَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ"(4).

يكتب السيّد الشهيد في بيان ذلك: "يبيّن الامام عليه السلام أنّ النهج المحقّ والأصيل هو نهج واحد يتجاوز الزمان والأجيال. إنّ هذا الربط العقديّ والإنسانيّ فيه ما لا يخفى من فوائد مهمّة لجهة ترابط الأحداث وتأثيرها بعضها بعضاً، وإن بعُدت المسافة، ولجهة القواعد والأسس التي تحكم مسارات المجتمع والتاريخ. لذا، يشكّل الرابط العقديّ الأساس في بناء المجتمع السليم".

2. التحلّي بصفات خاصّة: في سياق شرحه لكلام أمير المؤمنين عليه السلام: "أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، كَلَامُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلَابَ، وفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الْأَعْدَاءَ"، يقول السيّد الشهيد: "يُفهم من كلام الإمام عليه السلام أنّ من كانت أوصافهم كما ذكر عليه السلام، فإنّهم لا يؤتمنون على قضيّة، بالتالي، من أراد أن يبني جيشاً قويّاً وصادقاً ومخلصاً، عليه أن يعمل على تحلية قادته وجنوده بصفات يمكن الاعتماد عليها في مواجهة الجيوش والأعداء".

3. التذكير بالنعم: كما أنّ من أساليب الوعظ الاجتماعيّ تذكير أيّ جماعة بالنعمة التي هم فيها مقارنة بحالهم السابقة، وهذا ما يذكره السيّد الشهيد في شرح خطبة الإمام عليه السلام التي يصف فيها العرب قبل البعثة: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وفِي شَرِّ دَارٍ مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وحَيَّاتٍ صُمٍّ..."(5). يقول السيّد الشهيد: "قد يضطرّ القائد لتوصيف حال المجتمع السيّئة، ويبيّن لهم الخير الذي نزل إليهم، ليدركوا قيمة ما هم عليه من النعم، ويعرفوا أنّهم إنّما نهضوا وبرزوا بسبب هذا الدين الذي جاء به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم. وعندما يعرف الإنسان قدر النعمة التي يعيشها، فعليه أن يحرص عليها، ولا يرجع للحالة التي كان عليها من السوء والضلال".

4. التحذير من آفات خطرة: إنّ أعظم ما يشكّل خطراً على المجتمع ويكون سبباً في هلاكه هو ما ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: "إنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَى اللَّهِ رَجُلَانِ؛ رَجُلٌ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ،... وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ"(6).

يقول السيّد الشهيد: "يحذّر الإمام عليه السلام من صنفين طالما عانت منهما الأمّة والمجتمعات، هما: أتباع الهوى والمصالح ممّن فسدوا وأفسدوا حتّى لو كانوا من أهل العلم بحسب الظاهر، وأيضاً الجَهَلة الذين يتسلّقون مواقع سلطويّة واجتماعيّة بغير حقّ فيكونون سبباً للانحرافات.

إنّ هذه الأنماط موجودة في كلّ عصر، وهو ما يستلزم زيادة أهل العلم الحقيقيّين والمخلصين كي لا يتركوا الساحات والمنابر خاليةً لأتباع السلاطين والأهواء".

5. إبراز دور المؤمنين: بمراجعة نصوص أخرى في نهج البلاغة، يتبيّن وظيفة فئة من الناس في القيام بالمواجهة مع هؤلاء، فيقول السيّد الشهيد في شرح: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ وزَمَنٍ كَنُودٍ، يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً ويَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً، لَا نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا ولَا نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا ولَا نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا"(7)، "في الأزمنة الرديئة حيث يعمّ الفساد ويستشري الظلم ويتواطأ أهل السلطة وأصحاب المنافع الخاصّة والمطامع الجامحة، فإنّ ثمّة فئة ممّن بقي مصباح الإيمان في قلوبهم مشتعلاً، ولم تسقطهم المفاسد والضغوطات كافّة، وكانت خشية الله هي التي تحدّد مواقفهم. وعلى الرغم من الغربة والملاحقة والتهديد والقتل، فإنّ هذه القلّةلم تترك وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

6. التحذير من الجبن: يحذّر الإمام عليه السلام المجتمع والفئة المؤمنة من أن تُبتلى بآفة الجبن، فيشرح سماحته كلام الإمام عليه السلام الذي كان يحثّ فيه الناس على الجهاد: "أُفٍّ لَكُمْ، لَقَدْ سَئِمْتُ عِتَابَكُمْ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ عِوَضاً وَبِالذُّلِّ مِنَ الْعِزِّ خَلَفاً، إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ"(8)، يقول السيّد الشهيد: "إنّ أسوأ ما يُصاب به الفرد أو المجتمع هو الجبن والتخاذل مقابل الأعداء؛ فإنّه بذلك يكون السبب في كلّ ما يتعرّض له لاحقاً من ظلم أو قتل أو حرمان. والمجتمع الذي يغلب عليه التواني والتردّد والاختلاف في الرأي، يبقى مضطرباً وينتقل من حال سيّئ إلى آخر، بينما المطلوب أن يتحمّل الإنسان مسؤوليّته اللّازمة في الاستعداد لحمل السلاح والإقدام والشجاعة، ولو من باب أداء التكليف فقط، كي لا يطمع عدوّه به.

7. التحذير من الفتنة: من المخاطر الأساسيّة على المجتمع الفتنة، ولذا، يفخر الإمام عليه السلام بما قام به من إطفاء الفتنة، يقول عليه السلام: "أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي"(9)، ويبيّن السيّد الشهيد كلام الإمام هذا فيقول: "الفتن الداخليّة تمزّق المجتمع وتشتّته، ذلك أنّ الأهواء هي التي توجدها وتتحكّم بمصائر الناس. والمطلوب قبل حدوث الفتن سدّ أبواب الشبهات؛ لأنّها هي المدخل الطبيعيّ للفتنة، وهذا يحتاج إلى تثبيت العقائد والرؤى، والتزام الطاعة للقيادة الشرعيّة التي تسوق الموقف وتوحّده وتجلّيه، فلا يبقى تشويش ولا اضطراب ولا ضعف، بالتالي، لا تترك مجالاً لحدوث الشبهة".

أمّا بعد حدوث الفتنة، فالناس على نحوين:
أ. أهل البصيرة: هم المبتلون حقيقةً بها، والمتصدّون لها ويتحمّلون المسؤوليّة.

ب. أهل العمى: هم الغافلون غير المعتنين بشأنها وبمخاطرها.

لذا، حين يتصدّى للفتنة الصلحاء، يجب أن نناصرهم ولا نبتعد عنهم بحجّة أنّهم مبتلون، وأنّ اتّباعهم سيكون مكلفاً؛ لأنّ الخيار الآخر هو الأسوأ، أي الغفلة والعمى".

وبين التبيين الصحيح لحقيقة قيام الاجتماع البشريّ وعناصره، والمخاطر المحدقة به، والتكاليف الملقاة على عاتق أهل المسؤوليّة، يمكن حفظ المجتمع الإيمانيّ وصيانته والسير به للوصول إلى أهدافه المرسومة في التعاليم الإلهيّة الرساليّة.

كان هذا المبحث لمحةً من اهتمام سماحة العلّامة الشهيد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) الذي لم يترك مجلس العلم رغم كلّ مسؤولياته، وهكذا هم قادتنا.


(1) الخطبة 28.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 19.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 31.
(4) الخطبة 12
(5) نهج البلاغة، الخطبة 26.
(6) نهج البلاغة، الخطبة 17.
(7) نهج البلاغة، الخطبة 32.
(8) نهج البلاغة، الخطبة 34.
(9) الخطبة 93

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع