فيصل الأشمر
أبت كرامة العربي، منذ القدَم، السكوت على الذل والرضى بسلطة المعتدي، ولو كان أخاً أو قريباً. وحين نقرأ دواوين الشعر العربي، نجد أن الشاعر العربيّ اهتمّ بموضوع الجهاد ومقاومة العدو اهتماماً كبيراً. ولكي لا نطيل، نذكر فيما يلي بعض ما قاله الشعراء في العصر الحديث عن الجهاد والمقاومة.
يقول أحمد شوقي واصفاً حال أبناء الأمة وجهادهم في سبيل الوطن:
رَضينا في هَوى الوَطَنِ المُفَدّى
دَمَ الشُهَداءِ وَالمالَ المُطاحا(1)
وَلَمّا سُلَّتِ البيضُ المَواضي(2)
تَقَلَّدنا لَها الحَقَّ الصُراحا(3)
وَقُمنا في شِراعِ الحَقِّ نَلقى
نَدفَعُ عَن جَوانِبِهِ الرِياحا
نُعالِجُ شِدَّةً وَنَروضُ أُخرى
وَنَسعى السَعيَ مَشروعاً مُباحا
وَنَستَولي عَلى العَقَباتِ إِلاّ
كَمينَ الغَيبِ وَالقَدَرَ المُتاحا(4)
وَمَن يَصبِر يَجِد طولَ التَمَنّي
عَلى الأيّامِ قَد صارَ اِقتِراحا
وحين هاجم الفرنسيون دمشق في مطلع القرن الماضي، أطلق شوقي قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ
وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
والتي يؤكّد، من خلال أبياتها التالية، أن للأوطان حقّاً في دماء شّبانها الأحرار، وأن في الشهادة حياة للأجيال القادمة، فيقول:
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ
يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
وَمَن يَسقي وَيَشرَبُ بِالمَنايا
إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا
وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا
وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ
وَفي الأَسرى فِدىً لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
ويدعو أحمد محرم العرب إلى الجهاد والاقتداء بمن سبقهم من شهداء، فيقول:
يا رافعي علَم الجهاد تقدّموا
ودعوا صفوف المحجمين وراءَ
خُوضوا الكريهةَ حاسرين فإن طغت
لُجَجُ(5) الملاحمِ فاركبوا الأشلاءَ
لستم بني الشهداءِ بورك عهدهم
حتى تكونوا مثلهم شهداءَ
ويهيب عبد الرحيم محمود ببني قومه للنهوض إلى الجهاد والتوحد في وجه العدو، قائلاً:
بَني وَطَني دَنا يَومُ الضَحايا
أَغَرُّ(6) عَلى رُبا أَرضِ المعادِ
فَمَن كَبشُ الفِداءِ سِوى شَبابٍ
أبِيٍّ لا يُقيمُ عَلى اِضطِّهادِ
وَمَن لِلحَربِ إِن هاجَت لَظاها
وَمن إِلاّكُمُ قَدحُ الزِنادِ
فَسيروا لِلنِّضالِ الحَقِّ ناراً
تُصَبُّ عَلى العِدى في كُلِّ وادِ
فَلَيسَ أَحَطَّ مِن شَعبٍ قَعيدٍ
عَنِ الجُلّى(7) وَمَوطِنُهُ يُنادي
بَني وَطَني أَفيقوا مِن رُقادٍ
فَما بَعدَ التَعَسُّفِ مِن رُقادِ
قِفوا في وَجهِ أيٍّ كانَ صَفّاً
حَديداً لا يَؤولُ إِلى انفِرادِ
وَلا تَقِفوا إِذا الدُنيا تَصَدَّت
لَكُم وَتَكاتَفوا في كُلِّ نادي(8)
وفي قصيدة أخرى يصف عبد الرحيم محمود همة شعبه العالية، فيقول:
شَعبٌ تَمَرَّسَ في الصِعا
بِ وَلَم تَنَل مِنهُ الصِعابْ
لَو هَمُّهُ انتابَ الهِضا
بَ لَدَكدَكَت مِنهُ الهِضابْ
مُتَمَرِّدٌ لَم يَرضَ يَوْ
ماً أَن يُقِرَّ عَلى عَذابْ
حُيّيتَ مِن شَعبٍ تُخَـ
لَّدُ لَيسَ يَعروهُ ذَهابْ
لَفَتَ الوَرى مِنكَ الزَئيـ
رُ مُزمجراً مِن حَولِ غابْ
وَأَرى العِدى ما أَذهَلَ الدْ
دنيا وَشابَ لَهُ الغُرابْ
الحَقُّ لَيسَ بِراجِعٍ
لِذَويهِ إِلاّ بِالحِرابْ
وَالصَرخَةُ النَكراءُ تُجْـ
دي لا التَلَطُّفُ وَالعِتابْ
وَالنارُ تَضمَنُ وَالحَديـ
دُ لِمَن تَساءَلَ أَن يُجابْ
حَكِّمهُما فيما تُريـ
دُ فَفيهِما فَصلُ الخِطابْ
أما علي محمود طه، فإنه يدعو إخوته العرب للجهاد من أجل استرجاع فلسطين من أيدي مغتصبيها، فيقول:
أَخِي جاوَزَ الظالمونَ المَدَى
فحَقَّ الجِهَادُ وحَقَّ الفِدَا
أَنتركُهُم يَغصِبون العُروبَـ
ـةَ مَجدَ الأُبَوَّةِ والسُّؤدَدَا
وليسُوا بغيرِ صَليلِ السُّيوِف
يُجِيبُونَ صَوتاً لنا أو صدى
فَجَرِّد حُسَامَكَ من غِمدِهِ
فليس له بَعدُ أن يُغمَدا
أَخي أَيُّها العربيُّ الأَبيُّ
أَرَى اليوم مَوعِدَنا لا غَدَا
أَخي أَقبَلَ الشَّرقُ في أُمَّةٍ
تَرُدُّ الضَّلاَلَ وتُحيي الهُدَى
أخي إنَّ في القدس أختاً لنا
أعدَّ لها الذابحون المِدى(9)
صبَرنا على غَدرهم قادِرينَ
وكُنَّا لهُم قَدَراً مُرصدا
فَلسطِينُ يَفدِي حِمَاكِ الشّبابُ
فجَلَّ الفِدائِيُّ وَالمُفتَدَى
فَلَسطِينُ تَحمِيك منَّا الصُّدُورُ
فإِمَّا الحياةُ وإمَّا الرَّدَى
ويخاطب مصطفى الغلاييني ديار الشام، بعد أن دخلها الاحتلال الأجنبي أوائل القرن الماضي، ويبشّرها أن الأسود من أبنائها قد ثاروا ضدّ المحتل، قائلاً:
يا ديارَ الشامِ لَبَّيْكِ الأسُودْ
هَجَرَتْ، فاسْتَبْشِري، طِيبَ الرُّقادْ
ومَشَتْ ثائِرةً تحتَ البُنُودْ(10)
لِتَرُدَّ الخَصْمَ مجروحَ الفؤادْ
أبْشري يا دارَنا إنَّ الوطَنْ
سَيَرَى منا إذا حَقَّ الجِهادْ
عُصْبَةً تَدْفَعُ في داجي المِحَنْ
عنهُ أَهْوالَ الرَّدَى الغُبْرَ الشِّدادْ
قد حَطَمْنا القَيْدَ بالعَزْمِ الأكيدْ
واسْتَطَبْنا الحَتْفَ في نَيْلِ المُرادْ
مَنْ يَمُتْ في عِزَّةِ فَهْوَ السَّعِيدْ
في صُدورِ المجدِ مرفوعَ العِمادْ
نحنُ للمجدِ حُماةٌ والمَعالْ(11)
نحنُ للعُربِ فِداءٌ والبِلادْ
ما لَدَيْنا للعِدَى غيرُ الْعَوالْ(12)
وسيُوفٍ في الوغَى بِيضٍ(13) حِدادْ
نحنُ إنْ قُلْنا فَعَلْنا فاسألي
ماضي العَزْمِ إذا نادَى المُنادْ
ليس فينا غيرُ شَهْمٍ أَمْثَلِ
أَسَدٍ يَحْمي الحِمَى يومَ الجِلادْ(14)
وفي قصيدة أخرى، ينادي الغلاييني قومه لمواجهة الأخطار المحدقة، قائلاً:
هُبُّوا إلى السَّيْفِ فالأَخْطارُ مُحْدِقَةٌ
واسْتَحْقِروا المَوْتَ إنَّ المجدَ في الأَلَمِ
وأَجْمِعُوا الأَمْرَ لا يُلْمِمْ بِجَمْعِكُمُ
تَفَرُّقُ الرأْيِ بينَ النُّورِ والظُّلَمِ
إِنَّ الحياةَ حَياةَ العِزِّ ما بَرِحَتْ
في قَبْضَةِ الأَكْرَمَيْنِ السيفِ والقَلَمِ
ما قِيمَةُ المرْءِ إِنْ لَمْ يَحْمِ جانِبَهُ
قَلْبٌ إِذا وَجَمَ(15) الأَبطالُ لم يَجِمِ
وهلْ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ وَمَنْقَصَةٍ
سِوَى جَبانٍ لَئِيمِ النَّفْسِ مُتَّهَمِ
تَبّاً لِمَنْ عاشَ في هُونٍ ومَنْقَصَةٍ
الموتُ أَهْونُ مِنْ عَيشٍ لِمُهْتَضَمِ(16)
فَعِشْ أَبِياً كريمَ النفسِ مُحْتَرَماً
أَوْ مُتْ شَرِيفاً نَقِيَّ العِرْضِ والذِّمَمِ(17)
هُبُّوا فأُمَّتكُمْ أَمْسَتْ عَلَى خَطَرٍ
جارتْ عليها الأَعادِي جَوْرَ مُنْتَقِمِ
ما قِيمَةُ المَرْءِ لم يَأْلَمْ لأُمَّتِه
والجَوْرُ يُمْطِرُها صَوْباً(18) منَ النِّقَمِ(19)
وأخيراً، يخاطب توفيق زيّاد المقاومَ المصري الذي أبدى بطولة كبيرة في معركة بور سعيد، فيقول له:
ارفع جبينك للعلا وتقحّمِ
وازحف بمدفعك المحنّى بالدمِ
ازحف به فله بيانٌ ساطعٌ
كالشمس يفحم كل من لم يُفحمِ
ازحف به، عاشت يمينُك، واسقِهِمْ
كأساً أمرَّ من احتساء العلقمِ
وامسح جحافلهم، وخلِّ جنودهم
زاداً رخيصاً للطيور الحُوَّمِ
(1) المطاح: الهالك.
(2) المواضي: السيوف.
(3) الصراح: الخالص والواضح.
(4) المتاح: المقدَّر.
(5) اللجج: جمع لجة أي معظم ماء البحر.
(6) الأغرّ: البهيّ.
(7) الجُلّى: الأمر الشديد.
(8) النادي: كل مكان يجتمع فيه الناس.
(9) المِدى: جمع مدية أي سكين كبيرة.
(10) البنود: الرايات.
(11) المعال: المستعان به.
(12) العوال: أي العوالي وهي الرماح.
(13) البيض: السيوف.
(14) الجلاد: الشدة أو الصبر.
(15) وجم: سكت وعجز عن الكلام خوفاً.
(16) المهتضَم: المظلوم والمغصوب الحق.
(17) الذمم: جمع الذمة أي العهد.
(18) الصّوب: الانصباب والهطول.
(19) النِقَم: جمع النقمة أي الانتقام.