نسرين إدريس قازان
الشهيد على طريق القدس القائد الكشفيّ عبّاس حسين ضاهر «باسم»
محلّ الولادة وتاريخها: كفررمّان 27/1/1997م.
الوضع العائليّ: متأهّل وله ولد.
محلّ الاستشهاد وتاريخه: مركبا 3/1/2024م.
هي أشلاؤه المتناثرة ضوءاً، طارت من طبقٍ صغير فيه خمسة أصابع رأتها أمّه في منامها وهي حامل به، وفُسّرت الرؤيا أنّها كفّ العبّاس عليه السلام، فبُشّرت بصبيّ، فأسمته عباساً.
* نضجٌ مبكر
عبّاس صغيرُ العائلة، بريء الوجه بشوش، تراهُ منذ صغره يحملُ في قلبه الحبّ لغيره. لم تكن كلماته يوماً مجاملة، هكذا قال لزوجته لمّا سألته عن سبب مخاطبته الناس بكلامِ الودّ والحبّ: «عندما أقول لأحدٍ ما (حبيبي)، فهذا يعني أنّني أحبّه بحقّ».
في بلدته كفررمّان، ولد عبّاس ونشأ في بيتٍ ملتزم. وعلى الرغم من أنّه صغير العائلة، إلّا أنّه لم ينل من الدلال ما ناله من ضخّ كبير للقيم من أهله وإخوته، فتشكّل وعيه قبل أن يشتدّ عظمه. فلا تنسى أمّه عندما كان يطرق أحدهم باب الدار، وكان عبّاس طفلاً صغيراً جدّاً لكنّه وعى أنّ الباب لا يُفتح إلّا إذا تأكّد أنّ نساء المنزل يرتدين الحجاب. وقد توافق سلوكه مع سلوك إخوته الكبار الذين تأثّر بهم كثيراً، وخصوصاً أخاه الأكبر، الذي كان بالنسبة إليه منارة طريقه. ووفاءً لدوره في تشكيل شخصيّته، اختار اسمه الجهاديّ على اسمه.
في روضة الحبّ هذه عاش عبّاس. تحكي أخته أنّه لمّا سافر والداها لأداء فريضة الحجّ، وكان عبّاس يخطو خطواته الأولى، كان لافتاً التزامه بما تقوله له. وكلّما كبر، تعمّقت علاقته أكثر بوالديه وإخوته، فلا يأنس بشيء ما لم يتشاركه معهم.
* قدوة في السلوك
صغيراً التحق عبّاس بكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتدرّج فيها حتّى صار قائداً لفرقة الجوّالة، وأولاها اهتماماً خاصّاً، لدرجة أنّه كان يدعو عناصرها إلى منزله، حتّى يبقى على اطّلاعٍ على أحوالهم، فيركّز في حديثه معهم على الابتلاءات التي قد يتعرّضون لها، وكيفيّة مواجهتها، فضلاً عن الروح المعنويّة والجهاديّة التي يجب أن يتحلّى بها الشابّ في مقتبل عمره. وقد أخذ عنه كثيرون بعض التصرّفات مثل الوضوء قبل الأذان، وأداء الصلاة في أوّل وقتها، وهو المعروف أنّ رفيقته الدائمة في السيّارة وفي الجبهة هي سجّادة صلاة صغيرة.
* في خدمة الآخرين
كان عبّاس شخصاً اجتماعيّاً جدّاً، يحبّ البقاء مع الناس على الدوام، وبيته مفتوح للزائرين، فإن جلس على شرفة منزله ليحتسي الشاي، يدعو المارّة إلى منزله. ولهذا، امتلك قدرة لافتة على الشعور بالآخرين، فلا يحتاج سوى إلى نظرة واحدة حتّى يعرف المهموم، فيبادر إلى مساعدته والدعاء له، كما حصل مع أحد المجاهدين من رفاقه أثناء خدمته في العمل؛ إذ لمّا عرف ما به من غمّ، صلّى له ركعتين وقرأ زيارة عاشوراء لقضاء حاجته. وبعد يومين، أبلغه صديقه أنّ حاجته قد قُضيت، فأوصاه عبّاس: «عليك بزيارة عاشوراء». وكان عبّاس يبادر إلى العمل مع أخيه خلال إجازته في ورش الأدوات الصحيّة، فاستغلّ هذا الأمر لمساعدة الناس إن احتاجوا إلى صيانة أيّ شيء في بيوتهم.
* إلى الجبهات
اختار عبّاس طريق الجهاد مبكراً، وصار يتنقّل من دورة إلى دورة ومن مرابطة إلى أخرى، مختصراً من حياته سنوات مراهقةٍ لم تمرّ عليه.
في سوريا، شارك في العديد من المواجهات والمعارك، وقد حاصره الدواعش مرّةً في مبنى وحده، فجلس في غرفة منتظراً وصولهم ليفتح النار عليهم، وشعر حينها بغربة الإمام الحسين عليه السلام، وراح يلهجُ بما حفظه من أدعية، خصوصاً مقاطع من دعاء كميل، وكلّما سمع أصواتهم تقترب، هيّأ نفسه للشهادة، إلى أن وصل رفاقه إليه ونجا من شرّهم.
* لا يعرف للراحة معنى
الابنُ البارّ بوالديه وجارهما بعد زواجه، لا ينطلق إلى الجبهة ولا يعود منها إلّا بعد أن يطبع قبلة الرضى على يديهما. كان لا يعطي لنفسه الراحة من تعب الجبهة إلّا قليلاً، إذ كان يشارك زوجته في إعداد كلّ شيء، وكان يصطحب ابنه «ساجد» إلى زيارة أضرحة الشهداء، وهي وجهته المفضّلة. وفي كثير من الأحيان، كان يستغلّ وقت ما قبل النوم ليستمع وزوجته إلى دعاء أبي حمزة الثمالي، ولا يضع رأسه على الوسادة إلّا وهو يستمع إلى مجلس عزاء، حتّى أنّه كان يغفو في معظم الأحيان وهو على هذه الحال، خصوصاً في الليالي الفاطميّة.
* وحشة الغربة
ودّع عبّاس الكثير من رفاق الدرب منذ اندلاع حرب الدفاع عن المقدّسات في سوريا وبداية معركة طوفان الأقصى، وافتقدهم كلّما شارك في مجلس لطمٍ، أو شيّع رفيقاً جديداً، حتّى أحكمت الغربة الخناق عليه، وهو محتسب صابر، يتحدّثُ عن التسليم لقضاء الله وقدره، فتراه في أصعب اللحظات مبتسماً. وعند الحديث عن الحرب وما يمكن أن تؤول إليه الأمور، يرفع اصبعه قائلاً جملته المعهودة: «بعين الله أمشي لا أبالي»، وكان قد ذكرها في وصيّته التي سجّلها وهو يقود السيّارة، مؤكّداً على وصيّة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه): «لا تتركوا هذا المسيرة».
قبل استشهاده بسنتين، قرّر عبّاس العودة إلى مقاعد الدراسة، فنجح في امتحانات الثانويّة العامّة والتحق بالجامعة لدراسة الجغرافيا. ولمّا عرف أنّ زوجته بدأت بحفظ القرآن الكريم، تشجّع كثيراً، وأخبرها أنّه سيشاركها ذلك، وبهذا يتباريان من يحفظ بشكلٍ أسرع من الآخر.
احتدمت الجبهة أكثر، وثمّة ما تغيّر في داخله بعد أن عرف باستشهاد الحاجّ خليل شحيمي «سراج»، فتلك الليلة كانت من أطول الليالي التي عاشها عبّاس وهو يتقلّب في فراشه بين دمع وحزن، ولا يتحمّل مجرّد التفكير أنّه سيذهب إلى الجبهة ولن يلتقي به. ومنذ ذلك اليوم، صار يجلس على سجّادة صلاته بعد التعقيبات شارداً بشكلٍ لافت، وقد جرّبت زوجته أن تعرف ممّا يشكو، فتجده صامتاً.
* إلى جوار الشهداء
ليلة توجّهه إلى الجبهة كانت مختلفة، إذ أمضاها عبّاس وزوجته في الحديث عن الشهادة، وصار يوصيها بنفسها وبطفليهما وبأهله، ودعاها أن تكون صابرة محتسبة. وفي الصباح، ودّع عبّاس ابنه وهو نائم، وطلب إلى زوجته أن ترتّب البيت جيّداً وتقفله وتقضي كلّ الأيّام في بيت أهلها، فاستغربت طلبه، ولكنّها التزمت به.
قبل أيّام من استشهاده، رأت زوجته في منامها أنّها كانت في منزل ذويها وأنّه يُنعى شهيداً، فقالت لها أمّها: «دعينا نتأكّد من ذلك». وهذا ما حصل فعلاً؛ فقد عرفت باستشهاده من الأخبار، فكان عبّاس أوّل شهيد في بلدة كفررمان منذ مدّة طويلة، وجاء كلّ محبّيه لتوديع ذلك الوجه النورانيّ الملائكيّ. ونقل الشهيد حبيب معتوق لهم، أنّه كان منقطعاً عن الدنيا قبل أربعة أيّام من استشهاده بالصلاة والدعاء.