تحتاج مختلف أبعاد الإنسان إلى التربية والإنماء. فكما أنّ ثمّة أساليب وطرقاً تتناسب مع الطبيعة أو الحياة، فإنّ ثمّة أساليب أيضاً تتناسب مع المراتب التي يتّصف بها الإنسان، والتي بإمكانه أن يدرك بعضها أو ربّما أكثرها. لذلك، بعث الله تبارك وتعالى الأنبياء والرسل لأجل إعداد البشر وتربيتهم وإيصالهم إلى أعلى مراتب الكمال.
* العبادات وصفات في مدارج الكمال
أيّها السادة، إنّكم ترون الآن الهيئة الظاهرة من عالم الطبيعة، وأغلب نشاطاتكم تتعلّق به، ومعظم الأمور التي تشاهدونها هي ذات صلة بهذا العالم المحسوس، كالأحداث التي تدور في إيران.
طبعاً، تتّسم هذه الأحداث بطابع معنويّ أيضاً، إذ إنّ ثورة الشعب هي من أجل إحقاق الحقّ، ولكن ثمّة مراتب أعلى وأسمى من المراتب الدنيويّة يجب أن ننتبه إليها ونهتمّ بها، كالعبادات التي أوصى بها الأنبياء عليهم السلام ودعونا إليها، مثل أداء الصلاة والصوم والحجّ... إلخ، والتي تمثّل علاجاً حقيقيّاً من أطبّاء حقيقيّين وحاذقين في عملهم، جاؤوا لإيصالكم إلى مدارج الكمال، لذا، يتعيّن عليكم الاستفادة منها والأخذ بها ما دمتم تحيون في هذا العالم. وعندما تفارق أرواحنا هذا العالم وترحل إلى العالم الآخر وتحيا حياة أخرى، ستكون حينها مزدانة بالتربية الصحيحة التي تضمن لنا حياة سعيدة في ذلك العالم.
* تساهل بعض الشباب في أداء العبادات
ممّا يؤسف له أنّني سمعت عن وجود تقصير من قِبل بعض شبابنا في العمل بهذه الأحكام الإسلاميّة كأداء الصلاة التي لها أهميّة كبيرة في الإسلام. وربّما أُهملت هذه الوصفات العلاجيّة لعدم معرفتكم بقيمتها وأهميّتها. فهلمّوا قبل فوات الأوان وقبل يوم لا ينفع فيه الندم.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الإسلام لم يعتنِ ببُعد واحد على حساب بقيّة الأبعاد التي يحتاجها الإنسان في حياته، بل إنّ الأحكام التي جاء بها ديننا الحنيف، سواء ما يتعلّق منها بالشؤون السياسيّة أو أحكام الثقافة الإسلاميّة، ينسجم مع احتياجات الإنسان؛ فبمقدار حاجته إلى الطبيعة، توجد أحكام خاصّة بها، كذلك ثمّة أحكام لما وراء الطبيعة - التي نغفل عنها - أحكام لتلبية احتياجات الإنسان، وبتعبير آخر، تربيته تربية سليمة تحقّق سعادته.
* الرسول المتواضع
إنّ الله تبارك وتعالى غنيّ عن أعمالنا وعباداتنا. الأنبياء عليهم السلام أيضاً لا حاجة لهم بأعمالنا. وعندما نراجع تاريخهم وسيرتهم، نجد أنّهم بذلوا كلّ ما في وسعهم وتحمّلوا من العناء ما تحمّلوا في سبيل تربيتنا وسعادتنا.
فعندما تدرسون حياة النبيّ موسى وعيسى عليهما السلام أو حياة نبيّنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خاصّة، أو عندما تراجعون التاريخ الإسلاميّ، تجدون أنّ بعض الأنبياء قد أقاموا دولة وكانت لهم سلطة على الناس، ولكنّهم لم يكونوا يتصرّفون كما يتصرّف رؤساء الجمهوريّات والزعماء السياسيّون اليوم.
ومع أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد بسط في حياته رسالته على بلاد العرب وبعض البلدان الأخرى، ولكنّه لم يقم بما يقوم به رؤساء جمهوريّات العالم وزعماؤه. وكان صلى الله عليه وآله وسلم حينما يجلس في المسجد، يقرّب أصحابه ويتحدّث إليهم بكلّ تواضع، بحيث لم يكن بمقدور القادمين من خارج المسجد، والذين لم يروا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قبل، التعرّف عليه وتمييزه عن الآخرين.
وعلى هذا النحو كانت علاقته بأصحابه. لا تتصوّروا أنّه كان يجلس على مثل هذا المقعد الذي أجلستموني عليه، بل كان يجلس على بساط شبيه بهذا البساط الذي جلستم عليه، بحيث كان القادم من خارج المسجد يجد عناءً في تمييزه صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه. وكان بإمكان من يروم لقاءه أن يلتقي به بكلّ بساطة وسهولة، خلافاً لرؤساء الجمهوريّات اليوم، إذ على كلّ من يريد أن يلتقي بهم أن يتحمّل المشقّة والعناء، وقد لا تتحقّق أمنيته أبداً. فجميع الناس كانوا يحدّثون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويتحدّث معهم ويسمعون إجابته عن أسئلتهم.
أمّا عن منزله، فقد كان لصيقاً بالمسجد، ولا تتصوّروا أنّ المسجد يشبه مساجد المدن الحاليّة، بل كان عبارة عن قطعة أرض أحاطوها بالخشب وأغصان الأشجار لتجنّب دخول الحيوانات، ولم تشيّد داخله سوى غرفة أو غرفتين بنوهما بالطين. ولم يكن في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم سوى أشياء بسيطة. وكذلك كان منزله بسيطاً للغاية، لا كما هو الحال في بيوتنا.
هكذا كانت حياة أنبيائنا عليهم السلام ورسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، هي مسيرة حافلة بالعطاء والتضحيات والتواضع فداءً للإسلام والمسلمين.
* من كلمة ألقاها قدس سره في نوفل لوشاتو، باريس، بتاريخ 25 ذي القعدة 1398هـ. ق.