إنّ إحدى الخصوصيّات المهمّة لمدينة قمّ المقدّسة هي أنّها بُنيت حول مرقد شريف لإحدى النساء المنتجبات من آل البيت عليهم السلام، وهي السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام. وإن كان ماضي هذه المدينة يرجع إلى زمنٍ بعيد، إلّا أنّها معروفة طوال الاثني عشر قرناً الماضية بالمدينة المحتضنة لمرقد بنت موسى بن جعفر عليها السلام، وهذه ميزة مهمّة(1).
* قمّ مقرّ لمعارف أهل البيت عليهم السلام
من اللافت أنّ تأسيس مدينة قمّ كان نتيجة حركة جهاديّة مصحوبة بالبصيرة. فعائلة الأشاعرة حينما جاءت إلى هذه المنطقة وسكنتها، جعلتها في الحقيقة مقرّاً لنشر معارف أهل البيت عليهم السلام، وأطلقت هنا جهاداً ثقافيّاً. وكان هؤلاء قد خاضوا غمار الجهاد في ساحة القتال قبل أن يأتوا إلى قمّ، ومارسوا الجهاد العسكريّ، وكان كبيرهم قد حارب مع زيد بن عليّ عليهما السلام، لذلك، غضب الحَجّاج عليهم، واضطرّوا إلى المجيء إلى هنا، وجعلوا هذه المنطقة بمجهودهم وبصيرتهم وعلومهم منطقة علميّة. وهذا ما جعل سيّدتنا فاطمة المعصومة عليها السلام حينما وصلت إلى هذه المنطقة تبدي رغبتها في النزول فيها، بسبب وجود هؤلاء الكبار من عائلة الأشاعرة. وقد ساروا لاستقبالها وجاؤوا بها إلى هذه المدينة. وها هو هذا المرقد النيّر يشعّ وينير في هذه المدينة منذ ذلك اليوم.
إذاً، أهالي قمّ الذين أطلقوا هذه الحركة الثقافيّة العظيمة، شكّلوا منذ ذلك اليوم مقرّاً لمعارف أهل البيت عليهم السلام في هذه المدينة، وبعثوا مئات العلماء والمحدّثين والمفسّرين وشرّاح الأحكام الإسلاميّة والقرآنيّة إلى العالم كلّه، وسار العلم من قمّ إلى أقصى خراسان والعراق والشام(2).
* مدينة متألّقة
من مميّزات قمّ المقدّسة أنّها مدينة محبوبة، ومدينة النهضة والثورة، والعلم، والولاية والإمامة، والحوزة العلميّة، والعلماء الكبار، والمهد التاريخيّ الذي لا يُنسى لإمامنا الراحل آية الله العظمى الخمينيّ قدس سره، ومدينة المراجع العظام والمحدّثين والفقهاء والعلماء والمفسّرين والمؤلّفين الإسلاميّين البارزين، وهي مدينة تتمتّع بالمفاخر الاستثنائيّة والتاريخ الذي لا يُنسى سواء في العلم، أو في الثورة والجهاد.
ثمّة نقاط ثلاثة بارزة تجذب إليها الاهتمام من بين كلّ هذه النقاط المتألّقة لهذه المدينة العزيزة:
الأولى: الحرم المطهّر والمرقد الشريف للسيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام: هذه السيّدة العظيمة التي نبعت من جوار مرقدها لأوّل مرّة عين متفجّرة ومتدفّقة، فعمّت بركاتها أنحاء العالم كافّة ولا سيّما دنيا الإسلام.
الثانية: معالم العلم والفقاهة والحديث التي كانت قمّ تحمل لواءها؛ فالحوزة العلميّة ما زالت راسخة الأركان في هذه المدينة المقدّسة منذ ألف ومئتي عام وحتّى الآن. وقد خرّجت الكثير من العلماء العظام والفقهاء الكبار والفلاسفة البارزين والمحدّثين الفضلاء والمؤلّفين الأجلاّء الذين نشأوا وترعرعوا فيها أو وفدوا إليها وأقاموا فيها مستضيئين بنور بضعة الإمامة والولاية؛ أي السيّدة المعصومة عليها السلام (3).
* الإمام الخمينيّ قدس سره وحرم المعصومة
لقد كان إمامنا العظيم قدس سره يتعبّد منذ شبابه في حرم السيّدة المعصومة عليها السلام. وقد نقل لنا المرحوم الميرزا جواد الطهراني مشهداً عن ذلك قبل الثورة بسنوات عدّة، فقال: ذهبت إلى قمّ للدراسة في الحوزة، وكنت في كلّ يوم أذهب فيه إلى الحرم أرى رجلاً وقوراً ونورانيّاً، وقد غرق في العبادة، فانجذبت إلى نورانيّته وتعبّده، وسألت عنه، فقالوا إنّه الحاج السيّد روح الله الخمينيّ. وكان هذا في ذلك الزمان عندما لم يكن إمامنا العظيم هذه الشخصيّة البارزة، وقد بلغ الثلاثين من عمره. نعم، فهذه هي نتائج تلك العبادات والتوجّهات والارتباط والاتّصال بمعدن نور الغيب الإلهيّ والأولياء الإلهيّين. فاغتنموا هذه الإشراقات في قلوبكم الشابّة وقدّروها حقّ قدرها(4).
* نثر بذور المعرفة
لا شكّ في أنّ دور السيّدة المعصومة عليها السلام في أن تصبح قمّ على ما هي عليه الآن، وإضفاء العظمة على هذه المدينة الدينيّة التاريخيّة العريقة، هو دورٌ لا كلام فيه. فهذه السيّدة الجليلة، التي ترعرعت في حضن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، تمكّنت من جعل هذه المدينة تسطع كمركزٍ أساسيّ لمعارف أهل البيت عليهم السلام، من خلال حركتها بين الأتباع والأصحاب والمحبّين للأئمّة عليهم السلام ومسيرها بين المدُن المختلفة، ونثر بذور المعرفة والولاية بين الناس على امتداد هذا المسير، وبعد وصولها إلى هذه المنطقة ونزولها في قمّ. في ذلك العصر المظلم والحالك لحكومة المتجبّرين، تحوّلت قم إلى قاعدة تشعّ منها أنوار العلم ومعارف أهل البيت عليهم السلام على أطراف العالم الإسلاميّ بشرقه وغربه(5).
(1) من كلمة لسماحته بتاريخ 3/12/1995م.
(2) من كلمة لسماحته بتاريخ 21/10/2010م.
(3) من خطبة لسماحته بتاريخ 4/10/2000م.
(4) من الخطبة نفسها.
(5) من كلمة لسماحته بتاريخ 21/10/2010م.