لقاء مع الجريح المجاهد محمّد عاصم الهقّ (صخر)
حنان الموسويّ
كنّا في هجوم لتطهير قرية مزارع ريما من الدواعش. وقبل وصولي إلى باب منزل يتحصّن في داخله التكفيريّون، جثوت بانتظار تقدّم رفاقي، لكنّ ركبتي رست على تشريكة ألغام مخفيّة زرعها التكفيريّون غيلةً!
* نشأة مباركة
نشأت في بيئة ملتزمة متجذّرة العشق لخطّ المقاومة. انتسبت إلى كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف باكراً، وبدأت الصلاة قبل سنّ التكليف.
درست اختصاص المحاسبة، والتحقت بالتعبئة. دافعٌ قويٌّ داخلي كان يحفّزني للالتحاق بهذا الخطّ، ما سهّل عليّ مهمّة الانخراط في صفوف المقاومة لاحقاً بعد الخضوع لدورات عسكريّة عدّة.
شاركت في مهمّاتٍ عدّة، أُولاها في منطقة عسّال الورد حيث ارتقى عدد من الشهداء والجرحى في هذه المعركة، ممّا أثار في نفسي روح الثأر لهم، فعزمت على إنجاز المهمّة بجدارة. بعدها شاركت في هجمات فليطة، والقلمون، والجراجير وصولاً إلى مزارع ريما، حيث كان غيابي عن المنزل في كلّ مهمّةٍ يتخطّى العشرين يوماً.
* شظايا في كامل جسدي
التحقت بالجبهة كالمعتاد، وقد لازمتني مرثيّة «وصيّتي لكم إن كنت لن أعود، ألتقي بكم في جنّة الخلود»، دندنتها طيلة فترة التجهيز للمناورة داخل مزارع ريما.
كنت مسؤول مجموعة الإطباق المكوّنة من ستّة مجاهدين، مهمّتنا دخول القرية واقتحام أطرافها لتطهيرها. وقد عمد المسلّحون إلى تفخيخ مداخلها بالعبوات الناسفة. كان صديقي يتقدّمني في الهجوم، إلّا أنّني تقدّمت عليه متّجهاً نحو المنزل المقصود، ولكنّ تشريكة مفخّخات مخفيّة انفجرت ما إن جثت عليها ركبتي، فقذفني عصف الانفجار عالياً في الهواء، وانهار جزءٌ من شرفة المنزل فوقي بعد أن ارتطمت بوجه الأرض.
كان الانفجار مهولاً، لدرجة أنّ الشظايا سكنت جسدي، وقد أصابت نحري فسفكت دمه، وكذلك كاحلي الذي بقي معلّقاً بالجلد وبعض العظم. لقد حالت الخوذة والدرع دون مفارقتي الحياة، بعد أن أذابتهما حرارة الانفجار. غزارة النزف أفقدتني الوعي، لكنّ لساني بقي يلهج «يا زهراء» حتّى الرمق الأخير.
* في عِداد الشهداء
حضر الإخوة سريعاً للنجدة. حالتي الخطيرة شغلتهم، فكلّما حاولوا حملي، تساقطت قطعة من لحمي، فاستحضروا في أذهانهم صورة عليّ الأكبر عليه السلام يوم عاشوراء. أجرى المسعفون الإسعافات الأوليّة، لكنّ عبوة مستترة انفجرت، فبترت ساق صديقي أثناء عمليّة سحبنا.
وصلت إلى مستشفى يبرود. وهناك، حاول الممّرضون إنعاشي بالصعقات الكهربائيّة، لأنّ قلبي الضعيف اختفى نبضه، ما بثّ اليأس في نفوسهم، فوضعوني مع الشهداء. صودف في تلك الأثناء أنّ طبيباً إيرانيّاً كان يجول على المستشفيات للتبرّك من الشهداء، وحين اقترب منّي، أحسّ باختلاجٍ في جسدي، فسارع لإعادة إنعاشي، وشقّ مجرى الهواء في عنقي بحيث كان لهذه الخطوة الدور الأهمّ في عودتي إلى الحياة.
* جراحات كثيرة
في الطريق إلى بيروت، توقّف المسعفون عند كلّ المستشفيات للحصول على وحداتٍ من الدم، كما أنّ قلبي خذلني مجدّداً وتوقّف عن الخفقان.
وصلت إلى مستشفى بهمن، فسحبوا منيّ الكثير من الشظايا، ورمّموا الجروح خاصّة جرح عنقي، وحاول الأطبّاء إنقاذ قدمي بعد خشيتهم من احتمال بترها. عمدوا إلى إبقائي في سُبات، مع فقدان القدرة على الكلام. سيطر عليّ ظن قاتل أنّي وقعت أسيراً في أيدي التكفيريّين، مسبّباً لي الأرق، حتّى رأيت والدي خلف زجاج غرفة العناية، فاطمأننت إلى أنّي في مكانٍ آمن.
خضعت للعديد من الجراحات أبرزها بتر القدم وجراحة ترميم في البطن، خسرت بسببها 30 كلغ لأنّي مُنعت من تناول الطعام لفترة من الزمن. مكثت مدّة شهرين في المستشفى، نصفها في العناية الفائقة. بعد خضوعي لعمليّة بتر القدم تفقّدت إصاباتي، فوجدت أنّي فقدت خنصري اليمنى، وقد تمزّقت فخذي اليمنى مع بروزٍ العظم.
وافتني والدتي إلى مستشفى دار الحكمة بجسارةٍ لافتة، لكن حين رأتني متورّم الرأس وقد شرّحت الشظايا جسدي، هالها المنظر ففقدت وعيها للحظات، غير أنّها سرعان ما تقبّلَت وضعي باحتساب ورضى. كانت طيف العناية الألطف، فلازمتني في المستشفى ترعاني خير رعاية. غير أنّ ما أقلقها هو استيقاظي المفاجئ أحياناً وأنا في غمرة الاشتباك مع الأعداء، أطلق النار وأخوض المعارك كما لو أنّي ما زلت في الجبهة!
* رحلة العلاج
بقيت في مدينة بيروت طوال فترة العلاج. وكنت قد ركّبت طرفاً صناعيّاً، وتوجّب الخضوع لتأهيل في مؤسّسة الجرحى حتّى أعتاد عليه. ولكنّني بحمد الله وأثناء تجربة الطرف للمرّة الأولى، تمكّنت من السير مباشرة قاطعاً شوطاً مهمّاً دون حاجةٍ للعلاج. كانت فرحتي لا توصف لأنّي صرت أتنقّل لمسافات طويلة دون مساعدة من أحد، مع توصية الأطبّاء بعدم بذل مجهودٍ كبير.
عدت إلى قريتي، حيث احتشد أهل البلدة لاستقبالي بالزغاريد، وكان صديقي مهدي البزال، الذي استشهد بعد فترة قصيرة، بانتظاري، واحتضنني بقوّةٍ رقّةً لحالي. خضعت كلّ أطرافي للعلاج الفيزيائيّ المنزليّ، وتحديداً ساقي اليسرى، التي كانت بحاجة لإجراء عمليّة وصل للعصب جرّاء شظيّة قطعته، ولكن بحمد الله، مع المثابرة على العلاج، عادت الساق إلى طبيعتها.
* حياة طبيعيّة
اقترنت بابنة عمي، ورُزقت منها بصبيّ وفتاة. ولأنّي شخص شديد الهمّة لا أحبّ أن أُشعر أحداً بعجز الإصابة، فإنّي أخدم نفسي بنفسي، وكذلك زوجتي وولديّ عند مرضهم. طفلي يشعر بالفخر بي، وهو يسارع إلى مساعدتي وتقبيل ساقي المبتورة.
لقد زادت الإصابة من عزيمتي، وها أنا أنجز أعمالاً لم أنجزها سابقاً، كما أنّي انتسبت إلى أحد نوادي كمال الأجسام، وأحمل الأوزان بشكلٍ طبيعيّ.
أجمل ما في إصابتي أنّي واسيت أهل البيت عليهم السلام، خاصّةً عليّ الأكبر عليه السلام، رغم خجلي من بساطتها أمام تضحياتهم، وقدّ قرّبتني منهم أكثر.
رسالتي إلى مؤسّسة الجرحى زاخرة بالحبّ، فهذا الجهد الذي تبذلونه في سبيل الجرحى جبّار، فلكم كلّ الشكر والامتنان.
أمّا إلى سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) فأقول: سامحني يا مولاي فإنّي لم أقدّم سوى القليل، أشعر بالحزن لما يعتريك من ألمٍ على هذه الأمّة، ولعدم قدرتي على الحضور في الجبهات تلبيةً لأوامرك، لكنّي بكلّ ما أملك رهن إشارتك وفداء للإسلام.
اسم الجريح: محمّد عاصم الهقّ.
الاسم الجهاديّ: صخر.
تاريخ الولادة: 28/9/1997م.
مكان الإصابة وتاريخها: مزارع ريما- القلمون، 14/2/2014م.
نوع الإصابة: بتر الساق اليمنى مع شظايا في الجسد.