دعاء عبد الله
لن ينسى أحد عبارة: «لن أكون متواطئاً بعد الآن في الإبادة الجماعيّة في غزّة»، ولن تُنسى عبارته الأخيرة التي لفظها مراراً مع آخر أنفاسه بعدما أحرق نفسه مرتدياً زيّه العسكريّ أمام سفارة العدو الإسرائيلي في واشنطن: «الحريّة لفلسطين... الحريّة لفلسطين». هل تعتقد أنّ انتحار الطيّار آرون بوشنيل هو الأول؟!
في هذا المقال سترى أنّ أميركا لا تشنّ حروبها ومعاركها على أنقاض إنسانيّة الآخر فحسب، بل على أنقاض إنسانيّة جنودها الذين يستمرّون في الانتحار رفضاً لسياساتها، وهروباً من آلامهم أيضاً.
* الحروب: السبب الأساسيّ للانتحار
أثار الارتفاع الكبير في معدّلات انتحار الجنود في صفوف الجيش الأميركيّ مؤخّراً مخاوف مسؤولين أميركيّين من تداعيات ذلك الأمر على مستقبل أقوى جيوش العالم؛ إذّ يعدّ الانتحار حاليّاً ثاني سبب رئيس للوفاة بين هؤلاء العسكريّين، حيث وصلت معدّلاته خلال السنوات الماضية إلى مستويات لم يكن لها مثيل منذ أكثر من ربع قرن. وقد زادت محاولات الانتحار كثيراً في غضون السنوات الخمسة الماضية رغم المحاولات الكثيرة التي يُعمل عليها لتقليل معدّلاتها. وهذا الأمر يعدّ مؤشّراً على درجة الإرهاق الذي أصاب القوّات الأميركيّة وعوائلها.
وقد كشفت إحدى الدراسات عن حقيقة مفادها أنّ برامج مكافحة الانتحار لم تكن مصمّمة لمجابهة مثل تلك الأوضاع التي يواجهها الجنود الأميركيّون الذين يخوضون حروباً حقيقيّة خارج البلاد لأشهر طويلة.
وأشارت دراسات أخرى إلى أنّ معظم من انتحروا من الجنود هم من الشبّان الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً، مع الإقرار بارتفاع هذه الظاهرة لدى من هم أكبر سنّاً، وبين المجنّدات أيضاً.
* ارتفاع مستمرّ خلال السنوات
بعد نحو عشر سنوات من اندلاع الحرب على العراق عام 2003م، أصبح معدّل الانتحار بين الأفراد العسكريّين أكثر من المدنيّين المتطابقين في العمر والجنس. ومن بعدها، بدأت موجة تصاعد القلق بشأن انتحار العسكريّين؛ إذ جاء الجنود المشاركون في عمليّات عسكريّة في مقدِّمة المعرَّضين لخطر الإقدام على الانتحار، فوصل معدّل الجنود الذين يحاولون الانتحار أو إلحاق إصابات بأنفسهم إلى 17.5 لكلّ 100 ألف عام 2006م، في الوقت الذي حاول فيه 2100 جنديّ الانتحار عام 2007م.
وبدا ارتفاع معدّلات الانتحار واضحاً، عندما أفادت وزارة الدفاع الأميركيّة أنّ سنة 2009م كانت «قاسية»، إذ سُجّل فيها رقم قياسيّ في حالات الانتحار بين عناصر سلاح البرّ الأميركيّ وصل إلى 160 حالة.
وفي مطلع عام 2012م، سُجّلت أيضاً 154 حالة انتحار بين القوّات العاملة خارج الولايات المتحدة خلال 155 يوماً، 50% منها وقعت في أفغانستان.
في السنوات العشرين الماضية، تخطّى عدد المنتحرين في الجيش الأميركيّ أربعة أضعاف عدد قتلاه في الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في تلك الفترة، وهي غزو أفغانستان والعراق، فمنذ أن شنّ جورج بوش الابن الحملة العالميّة المزعومة «ضدّ الإرهاب» في عام 2001م، قُتل 7557 جنديّاً أميركيّاً في العمليّات العسكريّة. لكن النقطة اللافتة هي ما أشارت إليه التقديرات، أنّ 5116 جنديّاً و1193 من أفراد الحرس الوطنيّ و1607 من أفراد الاحتياط، جميعهم قد انتحروا، خلال هذه الفترة.
وبحسب تقرير أصدرته جامعة براون الأميركيّة، يواجه الجيش الأميركيّ وباءً حقيقيّاً وهو «الانتحار» بعد الإعلان عن انتحار 176 جنديّاً في عام 2021م، وهو رقم قياسيّ منذ عام 1938م. وهذه الإحصاءات اللافتة تمثّل كارثةً كبيرةً لحكومة الولايات المتحدة.
ومع انتشار جائحة كورونا، توقّع كثيرون أن يتسبّب «الوباء» في ارتفاع حالات الانتحار، لكن ما حصل هو العكس، إذ انخفض الرقم إلى 45979 حالة عام 2020م، ولكن سرعان ما ارتفع الرقم مجدّداً عام 2021م إلى 48183 حالة انتحار.
وسجّل عام 2022م عدداً غير مسبوق لحالات الانتحار بشكل عام في أميركا، إذ ارتفع وفقاً للتقديرات إلى أكثر من 49 ألفاً، أي بزيادة 2.6% عن العام السابق.
وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023م، زادت حالات الانتحار في الجيش بنسبة 25% مقارنةً بالوقت نفسه من العام الماضي، وهو ارتفاع مخيف.
* أسباب وباء انتحار العسكر الأميركيّ
إنّ معدّلات الانتحار المرتفعة ناجمة عن عوامل متعدّدة، نذكر منها:
1. التداعيات النفسيّة للحروب والقتال.
2. شعور الجنود أنّهم يعيشون من دون أيّ هدف وأن لا معنى لأفعالهم، فضلاً عن أنّ الدولة تستخدمهم كبنادق.
3. عدم قناعة الجنود بالحروب التي يذهبون للمشاركة فيها، واكتشافهم كذب المبرّرات.
4. التعرّض الشديد للصدمات في ظلِّ ظروف قتالية صعبة، يعاني فيها الجنود من الخوف والذعر، ولا يَرَوْنَ حولهم إلّا القتل والدمار والنيران والقنابل.
5. الإجهاد والضغوط المستمرّة على القوّات بسبب الحروب التي تخوضها.
6. حصول بعض الممارسات الإجراميّة التي يشارك فيها الجنود على حماستهم ثمّ يندمون، مثل فضيحة غوانتانامو وسجن أبو غريب.
7. سهولة الحصول على الأسلحة، إذ إنّ نحو 70 % من أفراد الجيش الذين ينتحرون يستخدمون الأسلحة الناريّة.
8. إدمان المخدّرات والكحوليّات.
9. الاكتئاب الشديد (وهو السبب الأقوى في ما يقرب من نصف حالات الانتحار).
10. صعوبة إعادة الاندماج في الحياة المدنيّة.
11. الإحراج من طلب المساعدة، والذي يمنع عدداً كبيراً من الجنود من الحصول على العلاج الذي يحتاجونه.
12. العيش في ظروف صعبة وقاسية، كما هو حال أفراد الخدمة في ولاية ألاسكا، إذ ارتفعت نسبة الانتحار هناك إلى 15 % عام 2020م بسبب معاناتهم من العزلة الشديدة وظروف المناخ القاسي، وقال بعضهم إنّ الخدمة هناك تعدّ كابوساً انفراديّاً.
واليوم، بعد احتجاج الطيّار الشاب آرون بانتحاره علناً على هذه المواقف، هل سنرى تصاعداً في انتحار الجنود الأميركيّين؟ هل سيكون هذا كابوساً جديداً للاستكبار؟