أحمد بزّي
كانتْ ليلةً ماطِرةً وبارِدةً جدّاً عندَ أطرافِ مَدينةِ حلب، وعلى الرغمِ من ذلك، فقد كانَ العطشُ شديداً أيضاً. كانتِ الشّفاهُ ذابلة، والخدودُ مُشقَّقة، لكنَّ الوجوه بدَتْ مُنيرَة. العدوُّ يُحيطُ بنا بشكلٍ نصفِ دائري. التحرُّكُ كان شِبهَ مُستحيل، فنحنُ في سرِيَّةِ رأسِ الحرْبة.
غافلتُ قائدَنا الحاج مهدي، وحمَلتُ آخرَ عُبوتينِ من المِياه، وجُلتُ بهِما على المجمُوعاتِ المُجاوِرَة. وبعدَ مرورِ دقائق عدَّة، عُدتُ إلى مَكاني بجانبِ الحاج مهدي الذي كانَ على عادتِهِ كثيرَ الذِّكْر.
- «أين كنتَ يا لواء؟».
- «ألم تسمعْ يا حاج؟ إنَّ العطشَ كادَ يقتلُ بعضَ الإخوة!».
- «ألم تسمعْ أنتَ أنّ الدَّواعش يحتشدون خلفَ السَّواتِر؟!».
- «بلى؛ لذلك حملتُ الماءَ للرِّفاق».
ابتسمَ الحاج مهدي، وكأنَّ ابتسامتهُ كانتِ الإعلان عن بدءِ الهجوم.
- «لقد بدأَ الفَتْح».
جملة سمِعَها الإخوةُ كلّهم عبرَ الأجْهزة. كان هدفُ سريَّتِنا احتلال التلّةِ المُقابلة، لكنْ أوّلاً يجبُ إخراجُ التكفيريِّينَ من منزِلَينِ في أعلى التّلّة.
انهالتِ النِّيرانُ التَّمهيديَّةُ على تجمُّعاتِ المُسلّحين، وبدأ رُماةُ سِلاحِ المُباشرِ برمايةِ القذائفِ على الأهدافِ المُحدَّدَة مسبّقاً، ثمَّ بدأنا التسلُّلَ وَفقَ الخطَّة، حتّى غدت المسافةُ بيننا وبينَ المجموعاتِ المُسلَّحةِ أقلَّ من ثلاثينَ مِتراً. الآن سنعتمِدُ على مهاراتِنا في القِتال.
أضاءَ الفَجْرُ أكثرَ فأكثر، ونحنُ نراهُمْ رؤية العين. وبإشارةٍ من الحاج مهدي، بدأنا الرِّماية. كانَ القِتالُ شرِساً. طهّرنا المنزِلَ الأوَّل على التلّة، ثمَّ دخلناه وصَعَدْتُ بعدَها والحاج مهدي إلى السَّطح. بدا المشهدُ أكثر وضوحاً على الرغم من عوائقَ طبيعيَّة. أخذَ كلُّ واحدٍ منّا زاويةً وتابَعنا الرِّمايةَ بشكلٍ مُركّزٍ لتأمينِ تقدّم بقيّة الإخوة أمامَنا. ولم تتوقّف أمطار النيران علينا، فهم يحتشدون في المنزلِ الثاني.
رأيتُ ياسراً وقد أُصيبَت رِجلُه، وأخذ يقفِزُ يميناً على رجلٍ واحِدة ويُتابعُ الرِّماية، بينما كان الحاج مهدي في الجهةِ الأخرى ولم يرَ ما رأيت. صرتُ أصرخُ وأخبرهُ بما شاهدت، وأكمِلُ الرِّماية كقنَّاص.
- «علينا إجبارهم على الخروجِ بأسرعِ وَقت».
- «في ماذا تفكِّر يا حاج؟».
طلبَ منِّي أنْ أتقدَّمَ نحوَه. كانَ ذلك صعباً وخطراً بالطبع، لكنِّني لمْ أكنْ أرفضُ له طلباً، وأحبُّ القتالَ إلى جانبِه ونحن في موقف مواجهة المخاطر. وصلت فأشارَ إليَّ بأن أُحضِرَ سُلّماً خشبيّاً مرْمِيّاً خلفنا، وأنْ أضعَهُ وسطَ السَّطح. لم أتردَّد في إحضاره. تناولَ الحاج قاذفَ «الآرْ بي جي»، ثمَّ جهَّزَ القذيفَة، وقال لي: «أمسِكِ السُّلَّم». أمسكته، وبدأ يصعدُ السلَّم والرَّصاصُ ينتشِرُ حولنا كما الجراد. صوَّبَ «الآر بي جي» نحو التكفيريِّين، نادى: «يا زهراء»، ورمى.
حاولتُ أن أكونَ ثابتاً، ونجحنا. دخلت القذيفة من النافذة إليهم. رأيتُ أشلاءَهُم تتطاير. كانوا يصرخون ويفِرُّون.
تناولَ الحاج مهدي قذيفةً أخرى، ثمَّ صعدَ السُّلَّمَ مُجدَّداً، وبالنِّداء نفسه «يا...». لمْ أسمع بعدَها أيّ شيء، لم أشعر بأيِّ شيء، كان الألم الذي اجتاحني أقوى من أيِّ ألمٍ مَضى. كنتُ أرى قليلاً فقط. سقطتُ أرضاً. ثوانٍ مرَّت، كان الزَّمنُ فيها بطيئاً. تقدَّم الحاج نحوي، كنت حينها قد استعدتُ بعضَ تركيزي، أسندتُ ظهري إلى العمودِ خلفي، ومزّقتُ قميصي، فرأيتُ الإصابة في كتفي. أغمَضتُ عينيَّ، حمدتُ الله، ثمَّ نظرتُ إلى الأعلى، فرأيتُ الرَّاية الصَّفراءَ مزروعةً أعلى التلّة.
ومع ارتفاع عجلات الطائرة التي ستقلّني وياسراً من حلب إلى دمشق، أغمضتُ عينَيَّ مجدَّداً وتذكَّرتُ كلامَ الحاج مهدي قبلَ ثلاث ليالٍ، عندما أخبرني عن حلمٍ، رآني في المُستشفى، وقدْ أتى لِزيارَتي.
* روى أحد المجاهدين من جرحى المقاومة الإسلاميّة هذه الحادثة في ذروة المعارك في حلب.