الشّيخ د. فادي ناصر*
نزل القرآن الكريم بصفته هدىً ونوراً؛ فعندما يطرح قوانينه وتشريعاته، فإنّه يعرض أهدافها وغاياتها، وسُبُل تنفيذها. ولذلك، غالباً ما تكون القوانين والتّشريعات الإلهيّة مقرونة بالقضايا التّربويّة والسّلوكيّة؛ لأنّ الجانب النظريّ البحت والجافّ، لا يمكنه أن يكون وحده نوراً وشفاءً وهدىً ما لم ترافقه التّربية الإلهيّة. لذا، وُصف القرآن بأنّه شفاءٌ من كلِّ الأمراض الرّوحيّة الّتي تحول دون التوجّه والسلوك إلى الله: ﴿وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس: 57). وبما أنّ مسألة التّوحيد هي أهمّ مسألة من وجهة نظر القرآن الكريم، نجد أنّ هذا الموضوع لم يُطرح فقط بشكلٍ نظريّ، بل يبدأ القرآن بتناوله بدءاً من خلقة الإنسان وتكوينه، فيخاطب بُعده الباطنيّ والرّوحيّ المفطور على معرفة الله، ثمّ يطرح فكرة الألوهيّة بعنوان أنّ الإنسان يحبّها ويطلبها بالتّكوين والوجدان، لأنّ الخالق هو الكمال والجمال المطلق، والإنسان بفطرته يطلب الكمال ويفرّ من النّقص.
* الخليل عليه السلام ومسيرة التّوحيد الفطريّ
عندما يطرح القرآن حادثة استدلال النبيّ إبراهيم الخليل عليه السلام على التّوحيد، مثلاً، وعلى عدم وجود أكثر من ربّ ومدبّرٍ واحد لهذا العالم، فإنّه يطرح هذا البرهان عن طريق فطرة حبّ الكمال والوجود، والنّفور من النّقص والعدم، ويصوّر النّبيَّ إبراهيم الخليل عليه السلام دائباً ومجاهداً للوصول إلى المحبوب الكامل. يستعرض القرآن الكريم استدلال إبراهيم عليه السلام على وجود الله بهذه الآيات الكريمة:
1. ﴿رَأَىٰ كَوْكَبًا﴾: كما هو معلوم، لقد كان عصر النّبي إبراهيم عليه السلام عصر عبادة الأصنام والكواكب، وكان عليه السلام قد أُودع في غار خلال طفولته من أجل إنقاذه من خطر الطاغوت، ولمّا خرج من الغار رأى قومه يعبدون الأصنام والكواكب.
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا﴾ (الأنعام: 76)؛ أي عندما غطّى اللّيل كلّ شيء وجاء الظّلام، ظهرت الكواكب في السّماء، ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ متسائلاً ومستفهماً، لأنّ بعض قومه كانوا يعتبرون الكواكب أرباباً يعبدونها بصفتها آلهة. وعندما تأمّل إبراهيم عليه السلام في هذه الكواكب رأى فيها عيباً واضحاً وهي الأفول والغياب، وهذه من علامات النّقص لا الكمال، والّتي لا يمكن أن تنطبق على صفات الخالق الّذي ينبغي أن يكون كاملاً، بل كماله على نحو الإطلاق واللّامحدوديّة. وهنا، بدأ النبيّ عليه السلام يطرح التّساؤلات، التي يقول العلّامة الطّباطبائي إنّها كانت مجاراة وتماشياً مع ما كان سائداً من عقيدة، وكنوع من الجدال بالّتي هي أحسن مع قومه، ولم يكن الخطاب بينه وبين ربّه، بدليل أنّ الله تعالى كان قد أراه ملكوت السماوات والأرض: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (الأنعام: 75)، والملكوت هو باطن هذا العالم؛ بمعنى أنّه «اتّحاد عالم الملك بالله». ومن الطّبيعي أنّ من ينظر ويدقّق، سيفتح الله بصيرته ليرى ارتباط هذا العالم ظاهراً وباطناً به تعالى، فيصل إلى اليقين، ولن يكون عندها من أهل الشّكّ والتّردّد. والله تعالى يأمر المؤمنين بالنّظر إلى ملكوت العالم ليكونوا من الموقنين: ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (الأعراف: 185).
2. ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾: عندما غابت الكواكب وأفلت، خاطبهم بلسان فطرتهم قائلاً: ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ (الأنعام: 76)؛ لأنّ الأفول والغياب لا يمكن أن يكونا من صفات الكمال، بالتّالي، لا يمكن أن يطلبهما الإنسان أو أن يحبّهما.
3. ﴿إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾: تكرّرت الحادثة بعينها بعد غروب الكواكب، ولكن هذه المرّة مع القمر والشّمس، ولكن لمّا أفل كلّ منهما مجدّداً كما أفلت الكواكب من قبلهما قال عليه السلام: ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 78). والخطاب هذا مؤشّرٌ إضافيٌّ على أنّه كان في حالة المحاججة والكلام مع قومه وليس مع نفسه، فقال لهم عندها إنّه لا يمكن أن تكون هذه الكواكب ولا القمر ولا الشمس هي الإله والرّب؛ لأنّ الربوبيّة والألوهيّة تتناقضان مع الأفول والغروب والفناء.
4. ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾: هنا، صدح إبراهيم عليه السلام بالخطاب الفطريّ الخالص لله الواحد الأحد، قائلاً: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 79)؛ أي إنّني وجّهت وجهي للّذي فطر كلّ نظام الطّبيعة على معرفته وتوحيده وما أنا من المشركين.
* معرفة الله الفطريّة
يقول الباري عزّ وجلّ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ* أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: 173-172). يُستفاد من هاتين الآيتين أنّ كلّ فرد يتمتّع بلونٍ من المعرفة بالله ووحدانيّته. فقوله تعالى لبني آدم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾، وإجابتهم: ﴿قَالُوا بَلَىٰ﴾، لا تترك مجالاً لأحد أن يدّعي يوم القيامة أنّه كان جاهلاً أو غافلاً عن ربوبيّة الله تعالى، ولن يستطيع أن يجعل التّبعيّة للآباء والأقوام السّابقين عذراً لشركه بالله الواحد. وقد رُوي في الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال في شرح هاتين الآيتين: «فعرّفهم وأراهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه»(1). وهذا مؤشّر إضافيّ على أنّ الله تعالى قد أودع في أصل خلقة الإنسان هذا التّوجه نحو الإله الواحد، وكتب في باطن وجوده بالقلم الإلهيّ ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ (العلق: 4) فصول كتاب معرفته، وما على الإنسان إلّا أن يأخذ بأداة العقل ليترجم هذه المعرفة الفطريّة الباطنيّة إلى معرفة عقليّة يستدلّ من خلالها على وجود الله بواسطة المعادلات والبراهين العقليّة. وعليه، نستفيد من هذه الآيات الكريمة وغيرها أنّ جميع أفراد البشر يتمتّعون بمعرفة فطريّة بالله تعالى، وهي لونٌ من ألوان المعرفة الحضوريّة والشّهوديّة بالخالق جلّ وعلا، إلّا أنّ هذه المعرفة في الإنسان نصف واعية، وينبغي أن تُفعّل لتصل إلى درجة الوعي التّامّ.
* نفي التّوحيد منافٍ للفطرة الإنسانيّة
من هنا، نفهم لماذا جاء الخطاب الإلهيّ بصورة الاستفهام الاستنكاريّ في قوله تعالى: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (إبراهيم: 10)، فهل يُعقل بعد أن أودع الله فيكم هذا التّوجه وهذه المعرفة الفطريّة أن تشكّوا في وجوده؟! وهل يتقبّل عقلكم الّذي يعمل بقانون الأسباب والمسبّبات أنّ هذا الوجود خُلق من تلقاء نفسه، أو على نحو الصدفة؟! وهل يمكن أن تستقيم حياتكم من دون قانون العلّيّة والمعلوليّة، أو السببيّة والمسبّبيّة؟! فإذا كان الجواب (كلا)، فكيف سيستقيم هذا الوجود الفسيح والكون العظيم من دون هذا القانون؟! لذا يقول الله تعالى لهؤلاء: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ (الطور: 35).
في هذه الآية أيضاً لونٌ من ألوان الاستدلال القرآنيّ الفريد والبديع على إثبات وجود الله وتوحيده بشكل غير مباشر وبأسلوب عقليّ حاسم؛ لأنّ الإنسان إمّا أن يكون قد جاء بذاته ومن دون خالق، وإمّا أن يكون هو الّذي أوجد نفسه، وإمّا أن يكون قد وُجد صدفة، وإمّا أن يكون له خالق آخر. ومن الواضح أنّ الاحتمالات الثلاثة الأولى غير منطقيّة وغير عقلائيّة: فالاحتمال الأوّل ينافي قانون السّببيّة والمسببّيّة، والاحتمال الثّاني باطل لأنّ الإنسان كائنٌ ناقصٌ وضعيفٌ ومحتاج، وهو في الأصل كان فاقداً للوجود فكيف أوجد نفسه؟ والقاعدة العقليّة المنطقيّة تقول: فاقد الشّيء لا يعطيه. أمّا الاحتمال الثّالث فمتعذّر لأنّ الصّدفة ليست وجوداً وليست شيئاً، وهي لا تملك مقوّمات الإيجاد ولا صفات الكمال لكي تخلق، وإنّما هي عدم، والعدم لا يخلق ولا يوجد. يبقي الاحتمال الرابع أنّ لهذا العالم إلهٌ وخالقٌ حتماً. ولكنّ السّبب في إنكار بعضهم لهذه الحقيقة الجليّة هي انعدام اليقين كما قال تعالى: ﴿بَل لَّا يُوقِنُونَ﴾، ولهذا، يعتري إنكارهم الشّكّ؛ لأنّه عندما يفتقد الإنسان الدّليل العقليّ، لن يكون عندها للطمأنينة محلّ، ولا لهدوء النّفس مورد.
* فأقم وجهك حنيفاً
يقول الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْق الله ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون﴾ (الروم: 30). تشير هذه الآية القرآنيّة إلى أنّ لقلب الإنسان ارتباطاً فطريّاً عميقاً بخالقه، بحيث إنّه عندما يغوص في أعماق قلبه، فإنّه سيجد هذه العلاقة والرابطة الوجوديّة بإله العالم. وقد رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال في تفسير هذه الآية الشّريفة: «فطرهم على التّوحيد»(2). وهذه الفطرة تدفع الفرد دوماً إلى مسبّب الأسباب الأوّل في الوجود، والكمال الذي لا حدّ له، وقد تخمد هذه الفطرة، فكان القرآن لها بالتوحيد مذكراً ومعلماً.
*عميد كلية الأديان والعلوم الإنسانية في جامعة المعارف، لبنان.
(1) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 13.
(2) المصدر نفسه، ج 2، ص 13.