نسرين إدريس قازان
اسم الأمّ: دنيا فرحات.
محلّ الولادة وتاريخها: الغبيري ١٦١٦16/2/1979م.
الوضع الاجتماعيّ: متأهّلة ولها 5 أولاد.
محلّ الاستشهاد وتاريخه: الطيونة 14/10/2021م.
يا مريم إنّ الله استجاب لدعواك، يوم تمنّيت الشهادة، فسألك من كنتِ في ضيافتهم: "وكيف للمرأة أن تنال الشهادة؟"، فكان جوابك: "إنّ الله إذا كتبها لأحد فإنّه يسوقها إليه. إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب". فأيّ سرٍّ حملته هذه المرأة حتّى نالت الشهادة؟
* في أجواء إيمانيّة
نشأت مريم تحت ناظري أبٍ نذر نفسه لاستقطاب الناس إلى التديّن، في زمن لم يكن التديّن فيه حالة عامّة، وفتح بيته للفتية والشباب من أجل تثقيفهم وتدريسهم، فكيف بأولاده؟ وترعرعت مع أمٍّ حكم الشرع عقلها وقلبها، وربّت أولادها على القيم الأخلاقيّة والدينيّة، وكان المسجد نزهتها مع بناتها. وقد التزمت مريم قبل بلوغها سنّ التكليف، فارتدت الحجاب واهتمّت بتفاصيله الدقيقة كافّة، فتبلورت شخصيّتها الوقورة والهادئة والمُحبّة، وما إن شبّت قليلاً حتّى ارتدت العباءة التي كانت تعني لها الكثير، فالحجاب واللباسُ ليسا قطع قماشٍ بالنسبة إليها، بل هما كمال للروح واستقرار للنفس، وقرارٌ تتّخذه المرأة لتبيّن السبيل الذي تنتهجه.
* على قدر المسؤولية
في السادسة عشرة من عمرها، تقدّم لها شابّ ممّن رضيت دينه وخلقه، فتزوّجت، واضعةً نصب عينيها أنّها ستكون على قدر المسؤوليّة الكبيرة التي ستُقدم عليها في حياتها الزوجيّة، وأخرجت مع متاعها ما تعلّمته من أمّها، من صبر واحتساب وقناعة ورضى بما قسم الله، وابتسامة هادئة ودافئة هي بلسمٌ لروحها وروح من حولها.
لقد وجدت مريم أنّ الله سبحانه وتعالى وضعها في خندق جهاديّ يحتاجُ إلى الكثير من القتال للذود عن حياضه، فما يتعرّضُ له البيتُ لا يقلّ خطورة عمّا يدور في جبهات القتال ويحسمه الرصاص، فاشتغلت في حياتها بما أحبّه الله، واختارت أن تختزل أيّام حياتها في بيتها، زوجةً محبّة وأمّاً رؤوماً وذلك الفوز العظيم.
* خير زوجة وأمّ
تجمّعت في مريم السجايا الحسنة والخُلُقُ القويم، فهي امرأة صبورة، أنيسةٌ لزوجها، تخفّف عنه تعب الحياة، وبكلماتها الراضية ونفسها القانعة وإيثارها، أرست الاستقرار في بيتها. ولمّا صارت أمّاً، كانت بحقّ أهلاً للأمومة.
رُزقت مريم بخمسة أولاد، فتاتين وثلاثة فتية، انكبّت على تربيتهم وتهذيبهم وتثقيفهم، حتّى باتت خطواتها في طريق التمهيد للإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكم كانوا يأنسون بها وهي على سجّادة صلاتها وسبّحتها بيدها وهي تتلو القرآن الكريم، الكتاب الذي استقت منه قواعد الحياة والقيم التي باركت بيتها. وبالكثير من التدبير كانت تجول بين المحال لانتقاء أجود الأصناف لأولادها الذين كبروا مع أمّ متفانية ومضيافة وكريمة، يكفيها في الحياة رضى الله أوّلاً، ثمّ الزوج والأهل والأبناء.
حافظت مريم على سريرتها نقيّة، فلم تعرف الخبث والبغض والغيرة والحسد، ولم تنظر عيناها إلّا إلى ما رزقها الله إيّاه لتشكره عليه.
وعلى الرغم من أنّها تنقّلت في بداية حياتها بين بيوت كثيرة ما أرهق كاهلها بالتعب، ولكنّها لم تشكُ يوماً، لأنّها كانت تدرك أنّ رزقهم في السماء وما يوعدون(1)، ولمّا منّ الله عليهم بمنزل في جبيل، شرّعت أبوابه للأقارب والضيوف.
ظلّ المسجدُ بالنسبة إلى مريم وجهة الراحة والسكينة، فكلّما سنحت لها الفرصة كانت تقصد مسجد الإمامين الحسنين L في ليالي الجمعة، تجلس في إحدى زواياه لتأنس بدعاء كميل، ولم تفوّت كذلك فرصة المشاركة في صلاة الجمعة كلّما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
عندما توفّي والدها، صارت مريم السند والمتّكأ لأمّها، ولأخيها ذي الستّة عشر عاماً. لم يكن الأمر سهلاً ولكنّها قامت بذلك، فقد أحاطته بالكثير من الحبّ والدلال والاهتمام كأنّه ولد من أولادها، وقد تعلّق بها حتّى بات لا يقوى على مفارقتها أبداً.
* علامات الرحيل
لم تسع الدنيا سعادة مريم لمّا عقدت قران ابنها، ولم تكد تمضي أشهر قليلة حتّى أسرّت لزوجها برغبتها في تزويج ابنتها، فاستغرب طلبها، ولكنّها أخبرته أنّها تريد أن تفرح بها قريباً، وكأنّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يهبها هذه الليلة الجميلة في الحياة الدنيا قبل أن يسترجع وديعته بأيّام قليلة.
اعتادت مريم أن تعود وزوجها من مشوارهما الصباحيّ قبل الشروق، لترسل من بعدها أولادها إلى المدرسة، ثمّ تتفرّغ لترتيب البيت وتحضير الطعام قبل أيّ شيء آخر، ولكن في الأسابيع الأخيرة، صارت تخالف نظامها الصباحيّ أحياناً؛ فلمّا صارت أمّها تطلب منها القدوم لاحتساء القهوة الصباحيّة معها ومع إخوتها، لم تتردّد مريم بترك كلّ ما تقوم به وتحضر إليهم، وكأنّها كانت تعلم أنّها تعيش أيّامها الأخيرة بينهم.
* رصاصة عمياء
وكان ذلك الصباح الذي أرسلت فيه مريم ابنتها الصغيرة إلى المدرسة، واطمأنّت إلى أمّها التي كان مقصدها الجنوب، ثمّ راحت تحضّر الطعام. استغربت مريم الأصوات والضوضاء الشديدة في الشارع، التي نتجت عن مسيرة نُظّمت من أجل المطالبة بتنحّي قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت آنذاك، دفعتها غزارة الرصاص الذي أطلقته أيدٍ آثمة على المسيرة السلميّة؛ لتتوضّأ بسرعة وترتدي ثيابها، وتلجأ إلى بيت أقاربها في المبنى نفسه حيث اجتمعوا ريثما تهدأ الأمور. يومها تفاجأت قريبتها بما ارتدته مريم لهروب ساعة، فقد لبست عباءة فضفاضة بأكمام طويلة تحت عباءتها الزينبية، وجوارب وزنوداً، ولمّا سألتها عن سبب ذلك، أجابتها: "حتّى لا يُهتك ستري إذا حدث لي أيّ مكروه". ولم تمضِ دقائق، حتّى قرّرت مريم الصعود إلى بيتها لتفقّده.
لعينةٌ هي الرصاصات العمياء التي تطلقها الأيدي الآثمة، إحداها مرّت مرور اللصوص بمنزل مريم، واستقرت في رأسها.
استشهدت مريم مغدورة، رحلت عن دنيانا لتستقر ملاكاً نقيّاً في قلوب الكثير من الناس. شهادتها قلّبت صفحات لم يقرأها أحد، فقد حضر عزاءها من كانت تساعدهم وتتكفّل بهم وتقضي حوائجهم سرّاً. الآن يقصدون ضريحها، يصلونها بالدعاء وطلب الرحمة وآيات القرآن، وقد جاورت أسعد الناس، أمراء الجنّة في روضة الحوراء زينب عليها السلام؛ لتكون أوّل شهيدة تُدفن حيث يسكن الشهداء، الذين لطالما غبطتهم على شهاداتهم.
1- إشارة إلى الآية الكريمة: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات: 22).