مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

إلى كل القلوب: شهداءٌ أباً عن جدّ*

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)

 

في 11-11-1982م، اقتحم أمير الاستشهاديّين أحمد قصير مبنى الحاكم العسكريّ ‏الإسرائيليّ في صور ودمّره تدميراً كاملاً، ممّا أدّى إلى مقتل ما يزيد على مئة ضابط وجنديّ ‏إسرائيليّ. هذه العمليّة التي هزّت كيان العدوّ، فتحت عصر العمليّات الاستشهاديّة في مواجهة الاحتلال ‏الاسرائيليّ للبنان، وأسّست أيضاً للتحرير الأوّل في مرحلته الأولى عندما أُجبر ‏العدوّ على الانسحاب بعد سنوات قليلة من بيروت والضواحي وصيدا وصور والنبطية والبقاع الغربيّ وراشيا.

إنّ ذكرى هذه العمليّة الأضخم في تاريخ الصراع العربيّ الإسرائيليّ، أصبحت مناسبة عظيمة ومهمّة اتّخذها حزب الله يوماً لشهيده، وهي فرصة سنويّة للقاء عوائل ‏الشهداء أيضاً وللحديث في محضر الشهداء، وهم يطلّون علينا من عليائهم، لأنّهم أحياء عند ربهم يرزقون.

* من الجهاد حتّى الشهادة
يمرّ كلّ شهيد بمرحلتين:
‏الأولى: الجهاد: وذلك عندما انتمى إلى المقاومة وحمل رايتها وآمن بها وقدّم لها زهرة شبابه‏ وعمره وحياته ودمه ووقته وجهده، فجاهد وضحّى وتعب وسهر وخطّط وحضر في ساحات القتال وقاتل، وهو يدرك أنّ نتيجة جهاده في نهاية المطاف قد تكون إراقة دمه.

الثانية: الاستشهاد: هو الخاتمة ‏الحسنة والعاقبة العظيمة، ووسام إلهيّ لهذا ‏المسار من الجهاد والتضحيات والإخلاص لله سبحانه وتعالى، تحت عنوان: «فزت وربّ الكعبة». إنّنا ننسب إلى هؤلاء الشهداء ما نحن فيه من انتصارات وقوّة. وإنّ الاعتراف بذلك مهمّ جدّاً، بينما الجحود والإنكار‏ له آثار نفسيّة واجتماعيّة وسياسيّة وأمنيّة ‏خطيرة، لأنّنا عندما نتجاهل عنصر القوّة الحقيقيّ ونفقده سوف نُصبح ‏ضعفاء، وعندما نتجاهل الأسباب التي أدّت إلى التحرير والحريّة ‏والكرامة والقوّة والمنعة ونتسامح فيها سوف تسقط أسباب القوّة، ‏ونُصبح ضعفاء وأذلّاء خاضعين للاحتلال والعدوان ‏والمهانة والمذلّة. أمّا عندما نعرف هذه القيمة فإنّنا نشكرها، وشكرها يكون في ‏حفظ تضحيات الشهداء ووصاياهم وعوائلهم ومواصلة ‏الطريق من بعدهم.

* معرفة مصير مفقودي الأثر أولويّة
شهداؤنا كلّهم معروفون، لكنّ بعضهم ما زال مفقود الأثر، أي أنّنا لم نتمكّن من استعادة ‏أجسادهم حتّى الآن، منهم من هو في قبضة العدوّ الإسرائيليّ وهو ‏يتنكّر لوجودهم، ومنهم من لا يزال جثمانه في بعض ساحات القتال التي ‏خُضناها في السنوات الماضية في سوريا. وثمّة أيضاً إخوة مفقودون ‏لعلّهم شهداء أو أحياء، ويحتاج أمرهم إلى حسم مع الوقت.

نحن نقدّر مشاعر هذه العائلات، وندرك ما معنى أن يكون للشهيد جسد وقبر ومزار في قريته أو بلدته ‏أو مدينته، ونقدّر أيضاً مشاعر هذه العوائل التي تنتظر معرفة مصير ‏أبنائها، وأنا أتابع هذا الملفّ شخصيّاً مع الإخوان بشكلٍ يوميّ وبالتفصيل، وإن شاء الله، كما أنّنا قوم لا نترك أسرانا في السجون، فلن نترك أجساد شهدائنا مجهولة المصير.

* مسيرة متواصلة
من الأمور اللافتة في مسيرة شهدائنا وجود شهيدين أو ثلاثة شهداء أو حتّى أربعة من بيت واحد، لكن ما هو أكثر تميّزاً أن يكون الابن والأب والجدّ من بيت واحد كلّهم شهداء، ويوجد حالات عديدة من هذا النوع. أين تكمن أهميّة هذا الموضوع؟ أهميّته في أنّه يمثّل تحدّياً ومعركة ‏للأجيال، وهنا نقطة القوّة. نحن لا نتحدّث في يوم الشهيد ‏عن تاريخ الشهداء فقط، وإنّما عن حاضرهم ‏ومستقبلهم أيضاً، نتحدّث عن مقاومة مستمرّة وأجيال ‏تواصل هذه المسيرة مع بعضها بعضاً وكتفاً إلى كتف، بحيث يسلّم الأب الراية إلى ابنه، والابن إلى الحفيد،‏ وهكذا.

من المعلوم أنّه عندما تنطلق أيّ ثورة أو مقاومة في العالم في وجه الاحتلال والهيمنة، فإنّ الجيل الأوّل، أي الآباء، يكون أوّل المتصدّين، لأنّه يتمتّع بحماسة عالية وبصيرة ‏كبيرة واستعداد عالٍ لتحمّل الصعوبات، فيتحرّك في ظروف قاسية ‏وبإمكانات متواضعة ولكن بعزم هائل. أمّا الجيل الثاني، أي الأبناء، فإنّه يتأثّر جدّاً بالجيل الأوّل لأنّه يعيش ‏معه ويواكبه، ويأخذ من حماسته وعزمه وإيمانه الشيء الكثير، ‏ولكنّه قد لا يماثل الأوّل في المواصفات كلّها، خصوصاً ‏إذا تراجع مستوى التحدّي. لذلك، يراهن الأعداء دائماً على تقدّم عمر الجيلين الأوّل والثاني وتعبهما وانشغالهما في شؤون الحياة، من جهة، وعلى قعود ‏الجيل الثالث جانباً، أي الأحفاد، بسبب تحقّق الانتصارات، من جهة ثانية؛ ولذلك، كانوا يعملون دائماً على استهداف هذا الجيل فيما نحن مشغولون بتأهيل الجيلين الأوّل والثاني. ما أهميّة هذا الكلام؟ وإلى أين يقودنا؟

* الجيل الثالث في دائرة الاستهداف
يجب أن نلتفت جيّداً إلى أنّ ما يجري في مجتمعاتنا في العالم العربيّ ‏والإسلاميّ -ولبنان جزء منه- ‏من ترويج لثقافة التفاهة والميوعة والتحلّل ‏الأخلاقيّ والاجتماعيّ والتفكّك الأسريّ والشذوذ، كلّها مخطّطات تعمل الولايات المتّحدة الأميركيّة بالتعاون مع بعض الدول على إدخالها في المناهج ‏التربويّة لإفساد الشباب والشابّات.

في الماضي، كان من السهل على الأب والأم تربية أولادهما وتوجيههم، أمّا اليوم، وفي ظلّ ثورة الاتّصالات، أصبحت هذه المهمّة صعبة لأنّه بات بحوزة كلّ ولد جهاز إلكترونيّ ذكيّ، يدخل من خلاله إلى كلّ العوالم دون حسيب أو رقيب، وهذا تهديد خطير لهذا الجيل الثالث في مجتمعاتنا. وثمّة الكثير من الوثائق والمستندات الصادرة عن وزارة الخارجيّة الأميركيّة فيها تأكيد على ما تروّجه تلك الدولة من سلوكات وأفكار تستهدف هذه الفئة، مستغلّةً الثورة هذه.

‏ ولكن ما هو المطلوب منّا في ظلّ هذا التهديد؟

* الشباب نقطة القوّة
إنّنا في معركة الجيل الثالث، ندعو لأن نكون حذرين ويقظين وأن نتحمّل المسؤوليّة كاملةً مع أبنائنا. وبحمد الله، رغم كلّ هذا الخطر والتهديد، فهم ‏خسروا في هذه المعركة حتّى الآن، والدليل على ذلك مسيرتنا وشهداؤنا. في السنوات العشرة الماضية، ‏قضى من إخواننا عدد كبير من الشهداء وكلّهم شباب من أبناء ‏وأحفاد شهداء الجيل الأوّل، وهذا دليل أنّنا لم نفقد شبابنا ‏ولن نفقد أبناءنا وأحفادنا، وأنّهم ما زالوا يحملون هذا الإيمان والفكر ويرفعون هذه الراية. وصدّقوني، خلال هذه السنوات الماضية، ‏كان الشباب يتنافسون ويتسابقون على الذهاب إلى الجبهات التي شاركنا فيها، وهذه نقطة قوّة مهمّة.

* الفضل للوالدين في استمرار المسيرة
بعد الله سبحانه وتعالى، نحن نعتقد أنّ الفضل في استمرار مسيرة الشهداء ‏يعود إلى الآباء والأمّهات في العائلات الكريمة والشريفة، الذين ربّوا أبناءهم ‏وبناتهم على هذا الإيمان والطريق وعلى هذه الثقافة و‏الروحيّة.‏

كثيرون من هؤلاء الشباب كانت مغريات الحياة متاحة لهم، وكان بإمكانهم أن لا يتحمّلوا مسؤوليّة من هذا النوع، وأن لا يحضروا في ساحات الخطر والقتال ‏والدماء والموت والخوف، ولكنّهم فعلوا، فهم ما كانوا ليحضروا في كلّ هذه الساحات لولا هذا ‏الإيمان وهذه الثقافة والروحيّة التي ربّاهم عليها آباؤهم وأمّهاتهم.‏

نحن نعتقد أيضاً أنّ كثيراً من الآباء والأمّهات هم من شجّعوا شبابهم على الذهاب إلى الجبهات فألبسوهم لامة الحرب، كما فعلت تلك الأمّ ‏الزينبيّة في كربلاء. وهذا له قيمة معنويّة وأخلاقيّة وشرعيّة ‏خاصّة، لأنّ رضى الوالدين عن عمل ولدهما، وخصوصاً إذا كان ملحقاً بأدعيتهما الكريمة ‏والمباركة، له تأثير عظيم.

وهذه العائلات الشريفة، بآبائها وأمّهاتها وزوجاتها وأبنائها وبناتها، صبرت عندما استشهد عزيزها، واحتسبته عند الله سبحانه وتعالى وافتخرت ‏به وحفظت أمانته.

* كالقابض على الجمر
أقول ‏لأميركا وللعدوّ الإسرائيليّ وللمحتلّين: لا تراهنوا على هذا الجيل وعلى ‏الأجيال القادمة، لأنّها ستحمل الإيمان ‏والعزم نفسه وستمضي بقوّة. إنّ مسؤوليّة الآباء والأمّهات والعلماء والمعلّمين في المدارس والمربّين ‏والمهتمّين بالشأن العام، أن تبقى عيونهم مفتوحة على هذا الجيل، وأن لا يتركوه فريسةً للإعلام الغربيّ الذي يروّج للفساد ‏والمخدّرات والضياع. المسؤوليّة اليوم على العائلات ‏الشريفة والكريمة أكبر بكثير من أيّ وقت مضى لأنّنا في زمن «القابض على دينه كالقابض على الجمر».


* كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في احتفال يوم شهيد حزب الله
في 11-11-2022م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع