لقاء مع الجريح المجاهد مهدي محمّد سماحة (كرار)
حنان الموسويّ
كانت منطقة "الزَرّاعة" هي الوُجهة. اتّفقنا على الانطلاق بعد صلاة الظهر. جهّزت الغداء وللمرّة الأولى ينضج الأرزّ ببراعة، وكم كان لذيذاً! اشتباكات "الزَرّاعة" دفعتنا لتغيير الخطّة، فانطلقنا نحو منطقة "الجورة" لتحديد أهداف العمل بعد رصد حركةٍ مُريبةٍ للتكفيريّين هناك. ترجّلنا من السيّارة وصرنا نجوب المنطقة، وأنا ألوذ بالحاج "أبو عباس" وأحذّره من خطورة المكان. لمّا يغادر حرفي الأخير حلقي وأنا منحنٍ أتفقّد الطريق، حتّى انفجرت عبوةٌ جعلتنا نطير أربعين متراً في الهواء ليرتطم بعدها جسدي بالأرض.
* فأل الخير
ولدت في كنف عائلةٍ مترعةٍ بالإيمان، فالتزام والديّ الدينيّ أثّر بي كثيراً. قدومي إلى هذه الدنيا كان فأل خير، فقد تفجّرت ماء البئر التي كان يحفرها أبي، فأقام الولائم وقدّم الأضاحي احتفاءً بالمناسبة، وأبرز المدعوين كانوا أفراد الحرس الثوريّ، فازدادت البركة في بيتنا.
إنّ هدوئي اللافت ومحافظتي على الصلاة والصوم في عمرٍ مبكرٍ، أسباب جعلت والديّ يتعلّقان بي أكثر، فصرت مدلّلهما وحبيبهما الصغير.
انتسبت إلى كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف صغيراً، وتدرّجت في مختلف مستوياتها حتّى أصبحت عميد الفوج في قريتي.
عام 2000م كان مفصليّاً بالنسبة لي، إذ خضعت لإحدى الدورات العسكريّة، وبرغبةٍ من والديّ، اللذين راحا يعاملانني على أنّني شابّ ناضج منذ ذلك الوقت، فأهدتني أمّي بعد عودتي خاتماً من نجف الأمير عليه السلام.
* لن أسامحك...
صرت تعبويّاً، وشاركت في مرابطات عدّة بالإضافة إلى دورات اختصاص ومشاركات عسكريّة، إلى أن اندلعت حرب تمّوز في عام 2006م. في اليوم السادس من الحرب، طُلب منّي التوجّه إلى الجنوب، فاحتضنت والدي وأخبرته بذهابي، فهمس لي بالانطلاق خِلسةً كي لا تراني أمي ويرقّ قلبها، فالتففت خلف المنزل، لكنّ صوتاً رقيقاً خلفي جعل قدميّ تتسمّران في الأرض، إنّها هي! نظرتُ في وجهها بخجلٍ، فبادرَتني بالحديث: "أمّا أنا فقد ادّخرتك لنصرة الحقّ، وربّيتك لمثل هذا اليوم، إن عدت شهيداً سأزفّك للسيّدة الزهراء عليها السلام، وإن عدت جريحاً فسأقوم بعلاجك لأُعيدك إلى الميدان". كلامها المترع بالعزم صبّ في أوردتي القوّة، وتلميحها بالغضب عليّ إن فررت من المعركة خائفاً -لا قدّر الله- أرعبني، إذ لا مجال للضعف والهرب في قاموس الزينبيّات.
* دورٌ بارز
انطلقت وصدى كلماتها يتردد في مسمعي، وبقيت حتّى نهاية الحرب أتنقّل بين محاور الجنوب، حيث كان لسلاح الهندسة الدور الأبرز في الكمائن على محاور تقدّم العدوّ، وصولاً حتّى أطراف بلدة مرجعيون.
عند عودتي، شاركت في الكمائن التي كانت تقام في قريتي، وبقيت في السلسلة الغربيّة حتّى نهاية الاستنفار حين قام الجنود الصهاينة بإنزال "بوداي".
بعد الحرب، خضعت لمجموعة دورات ثقافيّة وعسكريّة حتّى بداية المعارك في سوريا عام 2012م، وبدأت مهامي هناك.
* شوقٌ خفيّ
توجّب علينا الاستكشاف والتخطيط. كان عملاً موسوماً بالخطر، فوجه المعركة كان مبهماً، جلّ ما قمنا به هو تثبيت القرى التي كانت معرّضةً للتهجير، ودخلنا إلى "الديابية" و"الخالدية" وشددنا أزر إخوتنا هناك. بعدها انتقلنا إلى منطقة "ربلة" وبقينا فيها مدّة من الزمن، حيث ثبّتنا مواقع عزم الجيش السوريّ وآزرناه.
زواجي كان مقرّراً في 9/9/2012م، ولأنّني كنت أخضع لإحدى الدورات، فقد كلّفت الحاج "أبو عباس" بترتيب بعض الأمور نيابةً عنّي.
أيّامٌ جمعتني بعروسي، وحان موعد الالتحاق. لاحت ملامح العتاب على وجه زوجتي، حين لفحتها صدمة قراري بالذهاب ولمّا يكتمل الأسبوع الأول من زواجنا بعد، ولكنّ حديثاً ودوداً دار بيننا، كان كفيلاً بأن تقوم تلك الأصيلة بتوضيب أغراضي وتجهيز حقيبتي برضى وقناعة. ودّعتها وتوجّهت نحو مستشفى "دار الأمل" حيث يمكث والدي للعلاج من مرضه الخبيث. احتضنت أهلي بعد الاطمئنان لأحوالهم وغادرت.
* ثوب الكتمان
كان الاتّفاق أن ألتقي بالحاج "أبو عباس" في "القصير"، لكنّ هجوم "الزّراعة" حتّم علينا التواجد فيها. شعورٌ أنبأني أنّ حدثاً ما بانتظاري طوال الطريق قبل وصولي لأداء المهمّة. وصلت بعد منتصف الليل، وكان الحاج "أبو عباس" ينتظرني. سهرنا حتّى مطلع الفجر، وقد باح لي بلوعة بقائه في هذه الدنيا، بينما رفاق دربه من مجاهدي الرعيل الأوّل سبقوه إلى الشهادة. كان يتجرّع الأسى مع كلّ غصّةٍ.
بعد صلاة الصبح نامت عيناي قليلاً، بينما تفقّد الحاج المجاهدين. كان الجوع قد تملّكني لأنّي لم أتناول الطعام ليوم، لذا طهوت الطعام بعد استيقاظي. كانت المرّة الأولى التي ينضج فيها الأرزّ، فاستلذّ الأصدقاء بطعمه. أدّينا صلاة الظهر وانطلقنا في جولتنا نحو "الجورة" برفقة ضبّاط سوريّين.
كان الحاج قد تحدّث إلى زوجته عبر الهاتف، وعندما سألته عن موعد عودته قال لها: "من الآن فصاعداً عليكِ الاعتماد على نفسك دون مساعدة أحد، أنا موقِنٌ أنّكِ على قدر المسؤوليّة". استغربتُ سبب حديثه ذاك، وتساءلت عن سببه، فأجابني مربّتاً على ساقي والثقة تملأ كيانه: "يا صديقي سأستشهد". ذكّرته باتّفاقنا أنّنا سنعود إلى الديار عند إتمام المهمّة، وأنّه وعدني بذلك، لكنّه قاطعني متأوّهاً: "إن لم أستشهد الآن، سأموت حتف أنفي على الفراش، وهذا ما لا أطيق حتّى التفكير فيه". فردّ عليه زين مصطفى، الشابّ الذي كان يرافقنا، ممازحاً إيّاه: "ستظلّ تلهج بذكر الشهادة حتّى تقضي عليّ معك"، فضحكنا جميعاً.
* الخطر المحدق
وصلنا مقصدنا وترجّلنا من البيك آب. كانت حركات التكفيريّين مشبوهةً هناك، لذا حاولنا البقاء على حذر. كنّا نتفقّد الطريق وندرس خطّةً قيد التثبيت، ثمّ انحنيت لأتفحّص شيئاً لفتني أرضاً، بينما الحاج وزين يقفان على مقربةٍ منّي، وفجأةً، طرنا جميعاً في الهواء بارتفاع أربعين متراً تقريباً! فقَدَت عيناي ضياءهما، فإحداهما خرجت من مكانها، والأخرى غارت داخل عظام وجهي، ومع ذلك لم أكترث لهما، بل جلّ همّي أن أتفقّد حالة الحاج وزين. ناديتهما بأعلى صوتي، فجاءني جواب أحد الضبّاط بأنّهما بخير.
ماذا حصل بعد ذلك؟ التتمّة تجدونها في العدد المقبل بإذن الله.
اسم الجريح: مهدي سماحة.
الاسم الجهاديّ: كرّار.
تاريخ الولادة: 1985م.
مكان الإصابة وتاريخها: الحدود اللبنانيّة السوريّة، 30/9/2012م.
نوع الإصابة: كفيف.