د. غادة عيسى دقيق*
هل يعدّ الزواج المدنيّ بالفعل بديلاً ناجحاً عن الزواج الدينيّ؟ وهل هو المنقذ للعلاقات الزوجيّة بشكلٍ عام، والضامن لحقوق المرأة بشكلٍ خاصّ؟ صخب إعلاميّ كبير يُثار دوماً حول جدوى الزواج المدنيّ ومدى شرعيّته. لكن هل كل ما طُرح صحيح وواقعيّ، أم أنّ ثمّة أموراً تفصيليّة خطيرة يجهلها كثيرون؟
•الفرق بين العقد والزواج
إنّ الزواج بحسب أحكام مختلف تشريعات الطوائف اللبنانيّة هو "عقد ثنائيّ، علنيّ، ذو صفة دينيّة، يتّفق فيه رجل وامرأة على الحياة معاً، بغية التناسل، وتبادل التعاون"(1).
إلّا أنّ عقد الزواج ليس كغيره من العقود، إذ بات بإمكان الطرفين المتعاقدين تحديد الآثار القانونيّة المترتّبة على العقد، عملاً بالقاعدة القانونيّة المعروفة "العقد شريعة المتعاقدين". بينما الزواج هو نظام اجتماعيّ يحدّد القانون والشرائع الدينيّة نصوصه الآمرة، والآثار القانونيّة المترتّبة عليه، فغاية الزواج هو إنشاء أسرة، والتي لا يمكن أن تكون محلّاً للتعاقد.
•التمييز بين الزواج الدينيّ والزواج المدنيّ
1. الزواج الدينيّ: هو الزواج الذي يحمل مشروعيّته الدينيّة، بغضّ النظر عن مجمل ما يتّصل به من شروط وغير ذلك، إذ يوجد فرق في الزواج وأحكامه بين الطوائف الدينيّة، كما بين المذاهب الإسلاميّة نفسها.
الزواج في الإسلام ليس سرّاً -كما هو في المسيحيّة- ولا يحتاج إلى أن يجريه رجل دين، أو أن يحصل في بيت العبادة، بل هو عقد يحتاج إلى موافقة طرفين وإلى توافر شروطه، ويمكن أن يقع من طرفيه مباشرة (زوج وزوجة) من دون توسّط وكيل عنهما أو عن أحدهما، وما لجوء الزوجين عادةً إلى عالِم دين في الإسلام إلّا لأنّه -غالباً- الأعلم بأحكام الزواج، فيرجعون إليه حتّى يكون مجمل ما يتّصل بعقد زواجهما متطابقاً مع الأحكام الإسلاميّة(2).
2. الزواج المدنيّ: يعرّف أنّه عقد ثنائيّ بين رجل وامرأة، تتوافر فيه شروط العقد المدنيّ، ويُتوافق فيه على إقامة حياة زوجيّة مشتركة، ويمكن أن يكون إلزاميّاً أو اختياريّاً. غير أنّ المقصود بالزواج المدنيّ ليس مجرّد العقد، بل جميع المنظومة التي يحملها ذلك الزواج من أحكام وغيرها، وهي في مجملها مخالفة للقرآن الكريم وسنّة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
•دوافع ومبرّرات تبنّي الزواج المدنيّ
ينطلق مؤيّدو الزواج المدنيّ من اعتبارات وأسباب متعدّدة، منها ما هو قانونيّ وسياسيّ واجتماعيّ، نذكر منها ما يأتي:
1. إنّ الزواج المدنيّ يحقّق توحيد التشريع(3).
2. إنّه يحافظ على السيادة الوطنيّة، "ولأنّ مبدأ السيادة يتّصل اتّصالاً وثيقاً بخضوع كلّ المواطنين لقانون واحد"(4).
3. إنّه يلغي امتيازات رجال الدين (5)، وهو الوسيلة الوحيدة لإبعادهم عن الدولة، "فاستقلال التشريع عن المعتقدات الدينيّة يكون بفصل الدين عن الدولة، ومنع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة والقضاء القوميّين"(6).
4. إنّه يؤدّي إلى إنصاف المرأة اجتماعيّاً، لأنّ ما هو قائم حاليّاً هو عقد ذكوريّ فيه ظلم وإجحاف بحقوقها. لذلك، ولقيام مجتمع سليم، لا بدّ من مشروع للزواج المدنيّ يشترك في وضعه الذكور والإناث على حدّ سواء(7).
5. إنّه يساهم في تحرير المرأة المسلمة ممّا هو مفروض عليها "حتّى لا تبقى أسيرة النظرة القبليّة البدويّة الذكوريّة، إذ لا يراد لها الزواج من خارج الطائفة، كي لا تخسر طائفتها. أمّا الزواج المدنيّ، فيحرّر الأولاد والرجل والمرأة من أحد الانتماءات اللاوطنيّة"(8).
فهل يحقّق الزواج المدنيّ فعلاً كلّ هذه المزاعم؟
•إشكالات الزواج المدنيّ
في ما يأتي، نستعرض بعض بنود مشروع قانون الزواج المدنيّ الاختياريّ المعروف باسم مشروع قانون إلياس الهراوي للزواج المدنيّ، والذي يتضمّن إشكالات تدحض الادّعاءات التي تقول إنّ الزواج المدنيّ هو الحلّ والخلاص من "ظلم الزواج الدينيّ وذكوريّته".
1. إباحة زواج المسلمة بغير المسلم
لقد ورد هذا البند في مجمل مواد المشروع، بينما أحكام الإسلام تحرّم تزويج المسلمة لغير المسلم: ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لَهُم وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ﴾ (الممتحنة: 10)، و﴿وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ﴾ (البقرة: 221).
2. إباحة الزواج من الأخت بالرضاعة
نصّت المادة العاشرة: "لا يصحّ الزواج:
- بين الأصول والفروع
- بين الإخوة والأخوات
- بين من تجمعهما قرابة مصاهرة دون الدرجة الرابعة، ولا فرق في تطبيق هذه المادة بين القرابة الشرعيّة أو غير الشرعيّة أو بالتبنّي".
بالتالي، تكون هذه المادة:
أ. قد أغفلت منع الزواج بسبب قرابة الرضاعة، ومعنى ذلك أنّه يجوز للإنسان أن يتزوّج أمّه أو أخته من الرضاعة، والله تعالى يقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ﴾ (النساء: 23).
ب. اعتبرت قرابة التبنّي مانعة للزواج كقرابة النسب، فإذا تبنّى الرجل أو المرأة ولداً ذكراً أو أنثى، أصبح له كلّ حقوق الولد، ومنها موانع الزواج، والله تعالى يقول: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً﴾ (الأحزاب: 36).
3. إلزام المرأة بالمساهمة في الإنفاق
تنصّ المادة (20): "وعلى الزوجة المساهمة في الإنفاق إن كان لها مال"، والمادة (44): "كلا الزوجين ملزم بالنفقة تبعاً لموارده".
هاتان المادتان تساويان بين الرجل والمرأة في الإدارة والإنفاق، في حين أنّ الله سبحانه وتعالى فرض النفقة على الزوج دون الزوجة: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: 34)؛ فالقوّاميّة للرجل في إدارة الأسرة، ووجوب النفقة يقع على عاتقه تجاه زوجته وأولاده، حتّى لو كانت الزوجة من أغنى الأغنياء. بل وأكثر من ذلك، إنّ الله عزّ وجلّ فرض النفقة حتّى للمطلّقة في فترة عدّتها، ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ (الطلاق: 6).
وتتمّة الإشكالات في العدد المقبل بإذن الله.
* دكتوراه في الحقوق.
1.د. بشير البيلاني، قوانين الأحوال الشخصيّة في لبنان، 1982م، ص 41.
2.الشيخ د. محمّد شقير، الزواج المدنيّ في التصوّر الإسلاميّ، مجلّة الوحدة الإسلاميّة، العدد 135، 2013م.
3.النائب حسين يتيم، مقابلة مع مجلّة البناء الصادرة بتاريخ 16/8/1997م.
4.مشروع الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ المقدّم من كتلة الحزب إلى المجلس النيابيّ بتاريخ 16/7/1997م، ص3.
5.مقتطفات من بيان الحزب التقدّميّ الاشتراكيّ المنشور في جريدة السفير بتاريخ 26/3/1998م.
6.د. يوسف كفروني، من مقال له في جريدة النهار، بتاريخ 28/3/1997م.
7.د. دلال البزري، (للتأكد البزي او البزري؟) قابلة مع إذاعة البشائر، برنامج الرأي المعاكس، بتاريخ 28/10/1998م.
8.أ. نديم محسن، من مقال له منشور في جريدة الديار، بتاريخ 24/12/1996م.