لقاء مع الجريح المجاهد جعفر محمّد صبح (علي وهبة)
حنان الموسويّ
كنّا أربعةً، قسّمنا أنفسنا إلى قسمين؛ كلّ ثنائيٍّ معاً، قسمٌ يرابط، وقسمٌ يرتاح. لم تسكن مواجهات "الزبداني"، وسرعان ما تبدّد ظلام الدنيا من نور وجهَي صديقيّ في القسم المرابط، حين أُذِن لهما بالتحليق شهيدين. وبينما كنت أتجهّز للهجوم، ارتديت بدلتي وهممت بامتشاق سلاحي، وإذ برصاصةٍ تصيبني في رأسي وتُرغمني قهراً على أن أهوي أرضاً.
• طفولةٌ يقظة
ولِدتُ وسط عائلةٍ ميسورة الحال. وكأيّ إنسانٍ تفتّحت عيناه على الوجود، تأرجحت بين أسئلةٍ لم تفارق ذهني مطلقاً، فعرفت الله ودينه، وطبّقت تعاليمه بعد خضوعي لدوراتٍ ثقافيّةٍ، فصرت ملمّاً بالأمور الفقهيّة وفهمت معنى التكليف بشكلٍ أعمق.
عندما بدأت أحداث سوريا، استشهد شابٌّ مقرّبٌ منّي، فشعرت بمسؤوليّة عظيمة تُجاه الخطر المحدق بديننا ومجتمعنا ككلّ.
• جنون الحرب
لأنَّ جنون الحرب في سوريا استعر، تمّ سحبنا إلى منطقة الزبداني، حيث احتدم النزال، وبقيت مدّة شهر تقريباً. عدت بإجازةٍ لمدّة يومين، لأعود أدراجي من بعدها إلى الثغور. توزّعنا بشكلٍ منظّم؛ كلّ ثنائيٍّ اتّجه نحو نقطةٍ معيّنة لتثبيتها عند خطوط التماس. بعد ساعاتٍ أربعةٍ، استشهد شابّان من أصحابي بعد أن طالتهما رصاصات الغدر. استشاطت نفسي غضباً لله وحزناً لفقدهما، فنصحني الأصدقاء بترك الجبهة ريثما تسكن نفسي قليلاً، لكنّ شعوراً داخليّاً بضرورة القيام بواجبي وقف حائلاً دون ذهابي؛ لذلك صمّمت على استكمال المهمّة. وبينما كنت أجهّز نفسي وعتادي للانطلاق، انحنيت لأحمل سلاحي، فإذا بطلقة قنّاصٍ متسلّلٍ تصيب رأسي مهشّمة عظامه حتّى اخترقت جمجمتي، فسقطت أرضاً مغشيًاً عليّ، غير واعٍ لما يحدث حولي.
• إصابةٌ خطيرة
بعد عشرين دقيقة، استعدت وعيي محمولاً على لوح خشبيّ لنقلي إلى الإسعاف. سألت صديقي عمّا حدث، فأجابني بأنّنا سنصل قريباً؛ لذا، أغمضت عينيّ مجدّداً حتّى وصلنا إلى المستشفى الميدانيّ. قاموا بالإسعافات الأوليّة، وبعدها نُقِلتُ إلى مستشفى بهمن في بيروت. خضعت لجراحاتٍ ثلاثةٍ في رأسي، أزالوا بقايا العظام من جمجمتي، وزرعوا أنبوباً يصل الدماغ بأسفل سلسلة ظهري؛ لتمرير الدواء، حين تحسّس الطبيب نبضاً عاد يسكنني بعد أن فقدته. تمكّنوا من إنقاذ حياتي؛ لكن مع صعوبة الإصابة وظروف علاجي وانتقالي من مكان إلى آخر، أصبت بالشلل.
• سهر والدي
بقيت مدّة يومين مجهولاً، حتّى تعرّف عليّ بصعوبة صديقٌ لوالدي يعمل في المستشفى. حينها، عرف والداي بإصابتي فحضرا إليَّ سريعاً. ما كان منهما سوى الصبر والاحتساب، لأنّ بِكرَهُما اختار الجهاد كنهجٍ بإصرار وعزم، حتّى أنّهما لم يعترضا على وضعي الجديد، بل لازماني طيلة فترة مكوثي في المستشفى، ولا يزالان حتّى الآن يعتنيان بي بكلّ طيب خاطر. كان والدي لا يفارقني، بل يسهر على راحتي، ولطالما أيقظته ليلاً ليقرأ لي القرآن، فما رأيت منه إلّا الجميل.
• صبرٌ وعلاج
استغرقت خمسة عشر يوماً حتّى استقرّ وضعي الصحيّ. بعدها، عانيت من ارتفاع مستمرّ في حرارة جسمي بسبب وجود جرثومة خبيثة زادت حالتي سوءاً، ومنعت التجاوب مع العلاج، وأدت إلى خسارة ٦٠ كلغ من وزني، حيث برزت عظامي للعيان لشدّة نحولة جسدي. كنت أستيقظ تارة وأغفو أخرى، وأقوم بتصرّفاتٍ غير متّزنة، كما عانيت من فقدانٍ للذاكرة.
بعد شهرين من المكوث في المستشفى، نُقِلتُ إلى المنزل. لم يكن جسميَ اليقظ وعيناي المفتوحتان دليلاً على وعيي، كلّ الأحداث كانت أشبه بالمنام؛ جسدي موجود لكنّ إدراكي غائبٌ. ردّات فعلي اللاإراديّة من ضحكٍ، وحزنٍ، وضيقٍ، وانفعال، شاركني فيها الجميع حتّى الجيران، كطفلٍ يكتشف الحياة حديثاً.
بدأت أستعيد قدرتي على القراءة والكتابة بيدي اليسرى تدريجيّاً. أمّا الهاتف، فقد كان مستهجناً بادئ الأمر، إلى أن اعتدت استخدامه لاحقاً.
خضعت -وما زلت- لعلاج فيزيائيٍّ في مؤسّسة الجرحى، وكذلك لعلاج نطقٍ حسّن من طريقة لفظي، وللكثير من العلاجات التأهيليّة التي مكّنت وضعي من الاستقرار ومن استعادة بعض المهارات. واستطعت من خلال العلاج الانشغاليّ والقراءة العودة إلى حياتي الطبيعيّة، رغم وجود جزء ميتٍ من دماغي.
• علمٌ ونجاح
تابعت دراستي؛ فبإمكاني من خلال العلم استكمال خطّ الجهاد بأسلوبٍ آخر. وفي عام 2017م سكنت في محلّة "القائم"، وقد ساعدني الاختلاط بالناس على الشفاء بشكلٍ أسرع، فاستعدت وعيي وقدراتي الذهنيّة. وبالكثير من التحدّي، نلت الشهادة الثانويّة عبر تقديم امتحاناتٍ حرّة. بعدها، انتسبت إلى الجامعة، درست بدايةً اختصاص نظم المعلومات لمدّة عام، ثمّ توجّهت إلى اختصاص برمجة الكمبيوتر لأنّه أكثر ملاءمة مع إصابتي، وأحمد الله أنّي لم أجد فيه صعوبات، سوى عدم تحمّلي للدوام الطويل بسبب تشنّجات قدميّ.
• نعمة العقيدة
لا أذكر يوماً أنّي تأوّهت لوجع، أو تفوّهت بكلمةٍ تنمُّ عن ألمٍ مكتنز، ربّما هذه نعمةٌ من الله، رغم أنّي ما زلت أتجرّع كميّات كبيرة من الأدوية؛ للتخفيف من التشنّجات، التي لا تفارقني حتّى خلال الليل. حين أدركتُ عدم قدرتي على السير مجدّداً، تقبّلت الأمر بكلّ فخر واعتزاز، وما زلت حتّى الآن أفتخر بإصابتي، وأنا مصمّم على تقديم كلّ ما أملك.
أتواصل دائماً مع أصدقائي، أبثّ المعنويّات في عروقهم إن احتاجوا، وأسجد لله شكراً؛ لأنّه كان لنا مدرسةٌ في القوّة والثبات هي محمّد وآل محمّد عليهم السلام، تزوّدنا بالصبر والسلوان، وتعدنا بالثواب جزاء تحمّل البلاء. لا أطلب في هذه الدنيا سوى رضى الله، وأن أقدّم في سبيله المزيد، فرسالتي يجب أن أؤدّيها لأكون قدوة بالصبر والمثابرة للآخرين.
• أمنياتٌ وشكر
أسأل الله أن يمدّ في أعمار أفراد عائلتي، وأن يعطيهم الصحّة والعافية ويخفّف عنهم عبء إصابتي، فطالما دعوته أن يجعلني في خدمتهم، لكن مشيئته قلبت الآية، وأنا ممتنٌّ له وشاكرٌ لنعمائه.
لقاء سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أمنيةٌ ثمينة لديّ. حبّه الطاغي على حواسي يدفعني لأهبه ما تبقّى من عمري، ولأقدّم روحي فداءً له، عسى أن يطيل الله بذلك في عمره المبارك، فهو النور الوحيد الذي يبدّد ظلمات هذا العالم.
أوجّه رسالة شكر إلى كلّ العاملين في مؤسّسة الجرحى، الذين لم يقصّروا معي مطلقاً، ولم يتخلّوا للحظة عن رعايتي والعناية بي، احتضنوني منذ اللحظة الأولى وحتّى الساعة. حفظ الله المؤسسة والقائمين عليها من كلّ شرٍّ وسوء.
اسم الجريح: جعفر محمّد صبح.
الاسم الجهاديّ: علي وهبة.
تاريخ الولادة: 17-7-1998م.
مكان الإصابة وتاريخها: الزبداني 4-8-2015م.
نوع الإصابة: شلل جانبيّ.