مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تسابيح جراح: الغيبوبة البيضاء(*)


الجريح المجاهد سعد عوض الجمّال (جهاد)
حنان الموسويّ


استمرّ الهجوم لساعات. تلك التلّة الطاغية بمحتلّيها كانت صعبة المراس، تماماً كباقي جبال القلمون التي سيطر عليها الدواعش، فسلكها المجاهدون من أجل تثبيط انتشار الأعداء وتأديبهم بحزم. دامت الاشتباكات طويلاً لإسقاط تلّة "شميسة الحصان". شهيدان وسبعة عشر جريحاً مقاوماً نثروا بذور الإباء في أرواحنا، وقتلى من المسلّحين كانوا الحصاد، دون تحقيق الهدف المرجوّ. والمسعف وحيدٌ وسط ذاك السيل العارم من الدماء، فقدّم "جهاد" له العون، إلّا أنّ طلقة قنّاصٍ أردَته أرضاً، أذبَلت مواسم الورد في وجنتيه، فباتَ هو من يحتاج إلى المساعدة!

* دلالٌ مبكر
كان "جهاد" مدلّل والدته وما زال. علّمته الصلاة والصيام باكراً، ورافقته منذ كان برعماً في كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، حتّى خضع لدورة المقاتل وبعدها التدخّل. تميّزه في المدرسة دفعها للاحتفاظ بعلاماته والتباهي بها دائماً. حتّى بعد انضمامه لصفوف المجاهدين، لم يهتزّ تعلّقها به رغم غيابه الطويل المتكرّر عنها، ولم يقف عائقاً لأن توصلَه بنفسها للالتحاق بعمله أينما كان. لم يتوانَ لحظة عن تذكيرها بمُنيَته الفُضلى، أن تدعوَ له بنيل الشهادة، خاصّة عند حضورها مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام، وكانت رغم غصّة القلب تعدُه بذلك وتدعو له بحرقة.

* أسود الميادين
كانت المهمّة تقتضي تطهير تلّة "شميسة الحصان" في جرود فليطة، حيث تجمُّع التكفيريّين الغفير، والأنفاق الموغلة في أعماق الجبال، ومخازن العتاد اللامتناهية في مساحاتٍ شرّدتها رهبة الأمكنة.

لم تكن المعركة متكافئة. نِزالاتٌ مُرّةٌ خاضوها مع جيوشٍ لا تُحصى أعدادها، لكنّهم الممتلئون بصخب الحقّ، فكانوا أسود الميادين.

مع كلّ تقدّمٍ، كان المجاهدون يتساقطون نجماً خلف نجم بين شهداء وجرحى. خمس ساعاتٍ متواصلة من الاشتباكات، رسمت المشهد بدقّة. بدا واضحاً أنَّ عليهم الانسحاب. أمّا "جهاد"، فتوجّب عليه القتال والمساعدة في سحب الشهداء والجرحى في آن معاً. لم يكن الموقف سهلاً، يحتاج إلى الرجولة، والليونة، والسرعة مع نشاطٍ مفرطٍ لتكون الحماية مؤمّنة. وبينما كان منهمكاً يساعد المسعف، تربّص بهما شرّ قنّاص متخفٍّ، تحيّن فرصةً مناسبةً ليطلق خبثه عليهما. لحظاتٌ فقط وتعرّش التراب الممزوج بالدم على وجهه، طلقةٌ غادرةٌ اخترقت وركه اليسرى، أوقعته ممرّغاً خدّه بالثرى، كاسراً بعض أسنانه جرّاء قوّة الارتطام. وحين ساء وضع "جهاد" وبقي فاقداً للقدرة على التحرّك، التفتَ المسعفُ إلى أنّ جرح وركه لا ينزف، وأنّ نزيفاً داخليّاً ناتجٌ عن تمزّق أمعائه هو سبب خروج الدم من ثغره. نُقل الجريح إلى المستشفى الميدانيّ، وهناك ساء وضعه كثيراً، نزْفُ جرحه ازداد حتّى فقد الوعي.

* طيف الرحيل
توقّف قلبه وصار في عداد الشهداء. لكنّ الطبيب أصرّ على إعادة إنعاشه، بعد أن لاح لناظره اختلاجٌ ما في جسد "جهاد". وقد تفاعل خافقه بقدرة الله وعاد إلى الحياة. نُقلَ إلى مستشفى "قارة" حيث أمدّه الأطبّاء بخمس وحدات من الدم، ثمّ توقّف قلبه مرّة أخرى. ومع كلّ أفولٍ للنبض، كان يزداد تلف دماغه. نقِل إلى مستشفى "البتول" في الهرمل، وتمّ تزويده بالدم أيضاً، ومنه إلى مستشفى دار الحكمة، ثمّ انتهى به المطاف في مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيروت. انتشرت بعض صوره عبر وسائل التواصل، وصلت إحداها إلى خطيبته وقد نُعِيَ فيها شهيداً، فأخفت الخبر خوفاً على والدته. مضى وقتٌ حتّى قدِم رابط الضيعة لإخبار والديه. استقبلا النبأ بالصبر والشكر، وقد سجدت والدته ممتنّة لله، بعد معرفتها أنّه جريحٌ وما زال على قيد الحياة.

* سباتٌ سريريّ
وصلت أمّه إلى مستشفى دار الحكمة تنزف الوصال بالأحداق. رأته نائماً إذ تعمّد الأطبّاء ذلك، ووضعوا على عينيه شريطاً لاصقاً. قامت بتقبيل قدميه اللتين تورّمتا جرّاء انتعال الحذاء العسكريّ لمدّةٍ طويلة، بعد أن رأت في ملامحه لوحات المجد. حضرت جدالاً دار بين الأطباء حول إمكانية نقله إلى بيروت ومدى خطورة ذلك. وبعد تأمين وحدات الدم عند التوجه إلى سيارة الإسعاف، توقف قلبه مرة أخرى في أحد الممرات ثم أعيد إنعاشه. لذلك منعوها من مرافقته بعد ذلك، حتى وصلَ إلى غرفة العناية الفائقة في مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. عندها بقيَ في حالة سباتٍ سريريٍّ كاملٍ لمدّة شهر، دون وجود أيّ علامات للنشاط الدماغيّ، لكن صدرت منه بعض ردود الفعل اللّاشعوريّة، فقرّروا نقله إلى غرفة الاستشفاء.

* مؤسّسة معطاءة
مكثَ في المستشفى أحد عشر شهراً، حاول الأطبّاء خلالها إخراجه إلى المنزل مراراً، لكنّهم ووجهوا برفض والدته خوفاً من أن يصيبَه مكروه. خلال تلك الفترة، أتقنَت بعض الخدمات التمريضيّة بمساعدة الممّرضات، لكي تقوم بخدمته عندما يخرج إلى المنزل.

بعد ذلك، قام القيّمون في مؤسّسة الجرحى بتجهيز غرفة له في المنزل بمواصفاتٍ فائقةٍ للعناية به، ولتفادي أيّ طارئٍ أو عارضٍ صحّي، فاستقرّ في المنزل بعد مرور سنة على إصابته. كما خصّصت المؤسّسة له معالجاً فيزيائيّاً لم يتغيّب يوماً عن علاجه، أو يتأخّر عن موعده، يرقب أدقّ التفاصيل في جسد "جهاد"، ويحرص على سلامته بشكلٍ لافت، ويبدي اهتماماً خاصّاً بكلّ ما يعنيه، وبات فرداً من العائلة.

* خير الأمّهات
منذ خروجه من المستشفى وحتّى اليوم، أي منذ نحو سبع سنوات ونصف، ما زالت والدته تقوم بخدمته؛ تقلّبه من جانبٍ إلى آخر كلّ ساعتين خوفاً عليه من التقرّحات، وتحرص على إبقائه نظيفاً ومرتّباً. لا تمنعها "الغيبوبة البيضاء" التي يعيشها من فهم رسائل حركاته اللاإراديّة، فتميّز وجعه، وحزنه، وسروره، حتّى انعتاقه من سجن الدنيا وتحليقه في عالم الملكوت يوم الجمعة، تعي كلّ ذلك بحبٍّ، حتّى بعض أصوات الاشتياق التي تصدر منه، تتلقّفها بلهفةٍ وسعادة.

لم تفارقه يوماً منذ إصابته، تنام في غرفته، تراقب حالته خاصّة حين يمرض، تحرص على إعطائه جرعات الدواء والطعام عبر أنبوبٍ متّصلٍ بمعدته في الوقت المحدّد، وتنتظر عودته إليها بشغف، رغم تسليمها المطلق بقضاء الله، وما يسعِدها ويعزّيها أنّه أمام عينيها وفي قلبها دائماً.

* اشتياق وامتنان
معشوقته الأولى التي ما عرفَ الحبّ والعطف إلا بين خطوط يدَيْها، هي تعلم تكاثر لغات العشق في نفسه، وتعي أغنيات النزف في دمه، كأنّه يقول: ليتكِ تعلمين مدى استعار لواعجي لاحتضانكِ، للنظر في عينيكِ مطوّلاً، لأسبّح الله كثيراً، وأسجد له امتناناً أن رزقني أمّاً متفانيةً صابرةً مثلكِ. فما زلت عند وعدي باصطحابكِ لحج بيت الله، عسى أن يكون ذلك قريباً بإذن الله.

-أما لوالده: أنت الثوريّ الأول في عالمي، من تضخّ عروقه الحقّ بدل الدماء، من لقّنني دروس العزّة باكراً، وكان نِعم الكادّ على عياله، الصابر على المصاب بفخرٍ واعتزاز. لا حرمني الله منك.

-لأخويه: كونا القوة لوالدينا وكلّ الأمان. عوِّضاهما عن غيابي القسريّ وكونا السلوى والملاذ، واجعلا دعاءكما الدائم ليطيل الله عمريهما بالخير والعافية.

لو تعلمون كم أشتاق للمسجد! لخدمته وللسجود في أركانه! لمقام السيدة خولة عليها السلام وعبق الزيارة! لغسل القبور والاهتمام بها وقراءة القرآن لأهلها!

لو تعلمون كم أتوق للعودة إلى الجبهة واستئناف التلبية بالروح والدم، لمناصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه، كما عاهدته في رؤياي من قبل، وأكون بين المجاهدين الذين يسيرون عشقاً وتلبيةً تحت راية الأمين المفدّى.

أتمنى لو يصدح صوتي مجدّداً لأقرأ العزاء، وأواسي أهل البيت عليهم السلام بمصائبهم التي ما مرّ عبر التاريخ مثيل لها.

ورود الشكر موصولةٌ بأنفاسه للقيّمين في مؤسسة الجرحى التي ما أغفلته البتّة، رعته وحفظته في أهله وما زالت حتى الآن تتابع شؤونه.

الاسم الجهاديّ: جهاد.

تاريخ الولادة: 3/6/1995م.

مكان الإصابة وتاريخها: القلمون 15/5/2015م.

نوع الإصابة: في الفخذ والأمعاء.

 

(*) هذه الأحداث نُقِلت بلسان المسعف الذي كان مع الجريح، وأهله والطبيب المعالج له.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع