لقاء مع الجريح المجاهد حيدر محمّد إبراهيم (كفيل زينب)
حنان الموسويّ
وصلنا مدينة حلب. وقد وضعنا نصب أعيننا تحريرها، والسيطرة على الأنفاق المثخنة بالدواعش الموجودين فيها. كنّا سبع سرايا يجمعنا هدف مشترك، وقُسّمنا إلى مجموعات: الأولى لمهاجمة التلّة الصفراء، والثانية لمهاجمة حرج الصنوبر، والثالثة لمهاجمة تلّة "السيرياتيل". كنت ضمن المجموعة الثالثة. حيث أنزلتنا آليّة PMB بالقرب من الساتر، فاتّخذ كلٌّ منّا مكاناً خاصّاً به.
* بزوغ شمس الجهاد
بزغت محبّة القتال في فؤادي منذ الصغر. لم تكن البيئة التي نشأتُ فيها بعيدةً عن خطّ الجهاد؛ لذا كان الانخراط ضمن صفوف التعبئة سهلاً ومتوقّعاً، حيث خضعتُ لدورات ثقافيّة وجهاديّة. تعاقدتُ بشكلٍ منتظم، وانتقلت سريّتنا إلى القلمون في العام 2016م. مرّت خمسة أشهر وتغيّرت وُجهتنا نحو حلب. حتّم علينا الوضع هناك تحريرها ممّن أبدعوا في حياكة الموت للأبرياء؛ لذا، جاء الأمر بالهجوم على تلّة "السيرياتيل" لتحريرها وتحرير الأنفاق التي تعلوها.
* معارك ضارية
كانت المعارك في أوجها، مع الكثير من الصبر والبصيرة، بدأ القتال. حمم القذائف تساقطت علينا من كلّ اتّجاه. كانت المسافة بيننا وبين الدواعش لا تتعدّى مئتي متر. الأرض جرداء، ما خلا منزلٍ شبه مهدّمٍ اتّخذوه ساتراً ليتفنّنوا في اصطيادنا. فائض الأسلحة لديهم من كلّ الأشكال والأنواع، حوّل السماء إلى بركان يقذف النار اعتباطاً في كلّ مكان. صرنا نتفقّد بعضنا بين الحين والآخر. وعندما تقع القذيفة بيننا، تعلو النداءات، إلى أن شاهدتُ بعينيّ دماغ صديقي "كربلاء" تناثر أمامي، بعد أن أصابته طلقة "شتاير" من قنّاصٍ حاقد، فانفجر رأسه!
* إصابة كأنّها الموت
مع نفاد آخر قذيفة B7 بحوزتي، واصلتُ النزال برشّاشي، إلى أن هوت قربي قذيفة هاون، فتحوّل الكون فجأةً إلى كتلة نور، وترافق ذلك مع طلقات قنّاص ثلاث، خرقت إحداها خوذة رأسي فكسرت جمجمتي، وثانية أصابت صدري فمزّقته، وثالثة استقرّت في قدمي اليمنى.
شعرتُ بأيدٍ تلقّتني لأستلقي أرضاً، رأيتُ تكفيريَّين اثنين يتّجهان نحوي، فوضع أحدهما قدمه على صدري، والآخر شحذ سكّينه لذبحي، فصرختُ بهما، وربما أرادا أن يتّخذا منّي كميناً للمجاهدين. نداءات "يا زهراء" و"يا صاحب الزمان" ظلّت ترافقني. تعذّر على المجاهدين سحبي مباشرةً، فتلك المعركة كانت الأعنف، حسب وصف سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) بعد معركة القصير؛ لذا، بقيتُ مكوّماً على بعضي أنزف حتّى الفجر.
لم يجد المسعفون نبضاً أو نفَساً يسكنني، فوضعوني مع الشهداء. نمتُ على صمتٍ قطعته شهقة عالية، وتقيّؤ لكمّيّة من الدم في أثناء نقل الجثامين الشريفة، فانتبه المسعف أنّ بي بعضاً من حياة، فنُقِلتُ إلى المستشفى الميدانيّ في مدينة حلب، وخضعتُ لثلاث جراحات في الرأس والصدر والفخذ الأيمن، وقد مكثتُ فيها مدّة أسبوع. وبعدها، نُقِلتُ إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها إلى مستشفى السان جورج في بيروت، وبقيتُ فيها ثلاثة أشهر نتيجةً للغيبوبة التي دخلتُ فيها إثر النزيف الحادّ الذي تعرّضتُ له.
* ردّة فعل الأهل
كان صديقي أوّل الزائرين لمنزلنا، بعد أن تردّدت أخبار المعركة وضراوتها على ألسنة الناس. أخبر والدتي، التي لجّت في السؤال عنّي، أنّي أُصبتُ إصابةً طفيفة، ولكنّ قلبها لم يقتنع بخبر إصابتي. وافتني إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ولازمتني طيلة فترة إصابتي. قدِم والدي من السفر حين علم بإصابتي، فاجتمع كلّ الأهل والأحبّة قربي في المستشفى، ولم يتركوني مطلقاً. توسّل والدتي بالله والتضرّع الدائمَين اختصرا عذاب الوقت، فاستقرّ اليقين بأنّ رحمة الله ستحتضنني، رغم تنبؤات الأطبّاء بإصابتي بتلفٍ دماغيٍّ سيؤدّي إلى الشلل أو فقدان النطق أو البصر إن استعدتُ وعيي. وبالفعل، استعدتُ الوعي فجأةً، مع الحفاظ على جميع حواسي.
* رحلة العلاج
عانيتُ من شللٍ نصفيٍّ في بادئ الأمر، فخضعتُ لعلاج فيزيائيٍّ لخمسة أشهر في مؤسّسة الجرحى، وبعدها عدتُ إلى المنزل متابعاً علاجي في مركز العبّاس التابع للمؤسّسة في بعلبك.
منعتني بعض الشظايا الماكثة في دماغي وصدري، ونسبة إصابتي التي تخطّت الثمانين في المئة، من الحضور في سوح الجهاد مجدّداً، إلّا أنّني ما زلت متأهّباً في كلّ لحظة للالتحاق بالعمل الجهاديّ. كما أنّ التفاف الأصدقاء حولي بعد إصابتي، يصقل مزاجي ويؤجّج دائماً الحنين داخلي للعودة إلى المعارك.
علاجي الدائم هدفه الحفاظ على صحّتي وعدم تحرّك الشظيّة في دماغي. تصيبني نوبات صرع مرّة كلّ سنة في ذكرى الإصابة، فتذكّرني أنّ الحرب لا تبكي ضحاياها، وأنّ العزيمة هي من تصنع المجد، وأنّ الله لا يختار جنوده عشوائيّاً، إنّما يكون الاختيار لكلّ ذي حظٍّ عظيم.
* لطفٌ من الله
لم أرَ في إصابتي إلّا الخير ولطف الله. كلّما نضب الكلام تضافرت الحروف لتلوّن الدنيا في عينيّ؛ لا وصف لحنان والديّ عليّ ومشهد اجتماعهما حولي. على باب المودّة الصافية أقف لأدعو لهما بدوام الصحّة والعافية والعمر المديد. جراحي زادتني عزماً وإرادةً؛ إذ لا مكان لليأس أو الاستسلام في تفكيري.
* رحيق الكلام
لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: يا سيّدنا، قد مضينا قُدماً منذ الصغر في هذا الطريق، لنحفظ مسيرة أهل البيت عليهم السلام ونصون نهجهم. عذاباتنا لا تقارن بعذاباتهم، خاصّةً في كربلاء، فكلّ الأوجاع تتلاشى مقابل أوجاع السبايا والأطفال. وجراحنا مواساة للكفيل عليه السلام، الذي لم يتردّد لحظة في نصرة إمام زمانه عليه السلام رغم احتشاد جيوش الكفر حوله. وإنّ ما نقدّمه ليس إلّا القليل أمام فيض إيثاره، وكلّ ذلك تمهيد للظهور العظيم لإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
يا سيّدي، كيف يشيخ من يحياك عشقاً، ويدعو الله دوماً أن يطيل في عمرك المبارك؟ أنا، يا مولاي وقائدي، طوع أمرك، تلبيتي دائمة للنداء أيّان أطلقته، وإنّي لك الفداء.
للجرحى المضحّين أقول: اصبروا يا إخوتي، وليبقَ إيمانكم بالله كبيراً رغم الجراح والآلام، وتجهّزوا لتقديم كلّ غالٍ لنصرة الحقّ، فربّكم يشهد أنّ قائدكم لم يتوانَ عن تقديم فلذة كبده قربان ليحميكم.
الاسم الجهاديّ: كفيل زينب.
تاريخ الولادة: 3/10/1997م.
مكان الإصابة وتاريخها: حلب، 15/10/2016م.
نوع الإصابة: في الرأس والصدر والقدم اليمنى.