تحقيق: فاطمة خشّاب درويش
عامٌ مضى على رحيلها. لم يكن عاماً عاديّاً لكلّ من عرفها في ميدان العلم والتعليم؛ كان عاماً مثقلاً بالفقد والحسرة، مليئاً بالشوق الذي خلّفه الغياب والموت، هذا الغياب المفاجئ الذي قدّره الله سبحانه وتعالى دون سابق إنذار أو تمهيد.
كان خبر الرحيل صبيحة يوم الأربعاء 27 تشرين الأوّل 2021م أشبه بصاعقة، هزّت قلوب المحبّين والعاملين في المؤسّسة الإسلاميّة للتربية والتعليم- مدارس المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف- وتحديداً ثانويّة شاهد، حيث أمضت المربّية الفاضلة الحاجة سهى غسّاني ما يقارب 24 عاماً من عمرها في مجال جهاد التربية والتعليم.
وعلى أعتاب الذكرى الأولى لرحيلها، يطيب لنا أن نقلِّب معاً صفحات مشرّفة من حياة الأستاذة سهى، التي كانت لا تملّ ولا تكلّ من العمل بإخلاص، فكانت تنثر المعرفة والعلم في ميدان عملها، وتتابع بحبّ وتفانٍ أدقّ التفاصيل المتعلّقة ببيتها وعائلتها.
المديرة المعطاءة
بدأت الأستاذة سهى مسيرتها المهنيّة منسّقةً لمادة الرياضيّات، ثمّ أصبحت معاوناً تعليميّاً لمدير الثانويّة ومنسّقة عمل المنسّقين، وقد تولّت بعد ذلك، حتّى وفاتها، إدارة الحلقة الثالثة والثانية للإناث في ثانويّة شاهد- طريق المطار.
يكفي أن تذكر اسمها في ثانويّة شاهد، حتّى تتلمّس حجم المحبّة والاحترام اللذين يكنّهما الجميع لها من أفراد الهيئة الإداريّة والتعليميّة، وحتّى الطالبات؛ فغيابها كحضورها كبيرٌ جدّاً، نظراً للأدوار المتعدّدة التي كانت تقوم بها على مدى أكثر من 20 عاماً في مدارس المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف- الأوزاعي، ومن ثمّ في ثانويّة شاهد.
يتحدّث مدير ثانويّة شاهد الحاج أحمد قصير عن علاقة الأخوّة والزمالة المهنيّة التي ربطته بالحاجة سهى على مدى 24 عاماً، تسبقه دمعته حين الحديث عن مواصفاتها المهنيّة التي يجدها استثنائيّة، يقول: "على المستوى الشخصيّ، كانت الحاجة سهى زميلةً وأختاً، وشريكة في العمل وفي حمل الهموم المدرسيّة، وكنت دائماً أقول لها: أنا وأنتِ ندير هذه المدرسة".
ويتابع: "كان عمل الأخت سهى يغلب فيه العقل على العاطفة، وكانت -رحمها الله- تمتلك القدرة على تحمّل الصعاب، ولديها حُسن إدارة للأمور، وقدرة هائلة على الاستيعاب والتنظيم. وعندما كنت أطرح عليها فكرةً ما، تقوم مباشرةً بوضع مخطّط وآليات تنفيذيّة له. لقد امتلكت بالفعل مهارات مميّزة في العمل".
"كهف الملهوفين"
يستذكر المدير شخصيّة الحاجة سهى، التي مثّلت مقصداً لنحو 250 موظّفاً في الثانويّة، فهي لا تردّ أحداً، وتستمع إلى الجميع، وتحاول المساعدة في اجتراح الحلول والتخفيف من مشاكل الموظّفين، سواء الشخصيّة منها، أو التعليميّة، وحتّى المهنيّة.
يقول: "امتلكت قدرةً على الإحاطة بكلّ هذه المشاكل؛ لذلك كانوا يسمّونها في الثانويّة (كهف الملهوفين)؛ لأنّها كانت ملجأً للجميع، حتّى للموظّفين الذين كانوا يعملون في أقسام أخرى؛ إذ كان لديها مقدرة على الاستماع إلى المشاكل، وعلى الإرشاد إلى حلّها، فتركت أثراً عميقاً لدى كلّ من عرفها. لطالما نابت عنّي في حلّ الكثير من المشاكل؛ لذلك كانت الأستاذة سهى غسّاني مشروعاً للمدير الناجح".
ويضيف: "إنّ الفراغ الذي خلّفه رحيلها، أتلمّسه في كلّ محطّة من محطّات المدرسة. لقد افتقدناها مع اختتام العام الدراسيّ الماضي، ونفتقدها خلال التحضير للعام الدراسيّ القادم، وكيف لا نفتقد الشخص الذي كان أهلاً للنصيحة والمشورة والمشاركة في الرأي؟! رحمها الله وحشرها مع من تحبّ، مع محمّد وآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم".
الزوجة الكادّة والمؤمنة
حرصت الأستاذة سهى على أن تمدّ عائلتها بكلّ حبّ واهتمام، فكانت قادرة على التنسيق بين عملها في المدرسة ودورها بصفتها أمّاً وزوجةً. فكانت تتولّى منذ لحظة وصولها إلى البيت متابعة أعمالها المنزليّة، وغالباً تلاحقها الأعمال فلا تجد وقتاً لتبديل ملابس العمل بأخرى أكثر راحة حتّى تنجز ما عليها.
عِشرة عمر طيّبة قضتها مع زوجها وأولادها، فكانت نِعم الأمّ والزوجة، يتحدّث زوجها عنها بكلّ فخر واعتزاز؛ فهي التي تدرّجت في العمل الإسلاميّ المقاوم من مندوبة تربويّة في الجامعة أوّلاً، لتنخرط بعدها في العمل الاجتماعيّ من خلال الهيئات النسائيّة، إلى أن انتقلت لاحقاً إلى جهاد التعليم في مدارس المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في الأوزاعي، منذ مرحلة التأسيس.
وحول ذلك يقول: "سهى امرأةٌ صابرةٌ متواضعة، شديدة الرقابة الشرعيّة والحرص، تتجنّب الشبهات، ولم تكن تهتمّ لأمور الدنيا كثيراً، بل أولويّتها التي تضعها بين عينيها هي رضى الله سبحانه وتعالى في كلّ تصرّف تقوم به. لقد تزوّجنا في حفل متواضع في العام 1995م، وقد التزمت بالعباءة الزينبيّة في الشام بعد ثلاثة أيّام من زواجنا".
يختصر زوجها بحرقة سمات شخصيّتها المجاهدة: "تميّزت بذكاء وقّاد، وبالحذر الشديد أثناء التحدّث والتعبير، هاجسها تجنّب مجالس الغيبة التي كانت تنهى عن الاستماع إليها بشدّة دون مجاملة لأحد". ويضيف: "لم أشهد لها أيّ فلتة لسان في كلامها، بل كان لسانها دافئاً، وامتلكت القدرة على تقبّل الآخر".
وحول خصالها وعاداتها في بيتها، يقول: "كانت كريمة على بيتها وأولادها ومحيطها، عزيزة النفس، ولباسها متواضع؛ إذ كانت ترتدي من الثياب أبسطها، زادها من الدنيا قليل".
برنامجها العباديّ
وحول برنامجها العباديّ، يتابع زوجها قائلاً: "كانت لا تفوتها صلاة الليل حتّى في مرضها. ولم يكن الذكر يفارق لسانها؛ إذ كانت تحتسبه بواسطة عدّاد صغير تضعه في خنصرها. وحين تأوي إلى الفراش، تقرأ زيارة عاشوراء عن ظهر قلب، تتبعها بزيارة آل ياسين، كنت يوميّاً أغفو على تمتمتها".
يضيف قائلاً: "كانت تنتظر رفع الأذان على قناة الصراط، فأقوم أنا أو ابنتي فاطمة سريعاً بافتراش سجّادة صلاتها؛ لأنّها كانت حريصةً على أداء الصلاة في وقتها. لم تفوّت يوميّاً ختميّة القرآن التي تتابعها بشكلٍ جماعيّ مع مجموعة من الأخوات، كما خصّصت وقتاً للمشاركة في المجالس الحسينيّة في عاشوراء بشكل ثابت، فضلاً عن تخصيص برنامج عباديّ لها في شهر رمضان المبارك. أمّا الفقراء والمحتاجون، فقد اقتطعت سهى جزءاً ثابتاً من راتبها لأجلهم، حيث طلبت منّي أكثر من مرّة أن أوصل بعض المساعدات إلى منازلهم مباشرةً".
ويختم زوجها قائلاً: "لقد بذلت سهى عمرها جهاداً في هذا الثغر المقاوم، في مدارس المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وقضت مجاهدةً في هذه المؤسّسة التي تُنشئ وتخرّج مقاومين من أنصار الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف. ومن مات على حبّ محمّد وآله فقد مات شهيداً، وسهى مع الشهداء إن شاء الله".
الموالية للنهج
تأثّرت الأستاذة سهى بالإمام الخمينيّ قدس سره، وتمسّكت بالوليّ الفقيه السيّد عليّ الخامنئيّ دام ظله وكانت من مقلّديه، ولم تكن تفوّت خطاباته وقراءة منشوراته، كما كانت تتابع خطابات سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) بشغف وحبّ، ولم يُفتها الاستماع إليه والمشاركة في كلّ احتفاليّة خطب فيها أو أيّ إطلالة تلفزيونيّة خاصّة به. كانت تردّد دائماً: "اللهم خذ من عمري وزد في عمره".
اهتمامات مختلفة
رغم مشاغلها الكثيرة بصفتها امرأةً عاملةً وربّة منزل حريصة، كانت الأستاذة سهى تنتقي كتاباً لمطالعته كلّما سنحت لها الفرصة في أوقات الإجازات، وكانت أغلب مطالعاتها عن قصص الشهداء. كما أردفت مطالعتها بقصص باللغة الفرنسيّة من حينٍ إلى آخر، حرصاً على تطوير لغتها الأجنبيّة.
الصديقة الصدوقة
كان من الصعب على الأستاذة هدى حايك، منسّقة اللغة العربيّة في ثانويّة شاهد، أن تتحدّث عن علاقتها بصديقتها الأستاذة سهى غسّاني، وهي التي بدأت وإياها المشوار التعليميّ في مدارس المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف قبل سنوات طوال. تقول: "لم تكن زميلة عمل، بل كانت صديقةً صدوقة. لم يقع بيننا أيّ خلاف خلال هذه السنوات كلّها، وكنّا نتحاور ونتناقش في كلّ الأمور. كنّا على تواصل دائم، حتّى بعد انتهاء الدوام في المدرسة، كانت تتابع معنا عبر الهاتف من أجل تنسيق بعض الأمور العالقة".
تتابع حايك: "غيابها قاسٍ جدّاً، نشعر به في قاعات الامتحانات، حيث كانت تنتقل من قاعة إلى أخرى. نشعر بطيفها يتنقّل بين الطوابق في الثانويّة، فهي الحريصة على أدقّ التفاصيل، وكانت تعطينا الدفع للعمل والعطاء. أفتقدها في كلّ لحظة من اللحظات".
المعلّمة العطوفة
حين دخلنا أحد الصفوف، حيث درّست الأستاذة سهى، كان يكفي أن نذكر اسمها أمام الطالبات حتّى تُغرورق أعينهنّ بالدموع. سبقت الدمعة الجواب على سؤالنا؛ إذ لم تكن معلّمة فحسب، وإنّما بمنزلة الأم الناصحة والمرشدة لهنّ، وكانت تستمع أيضاً إلى مشاكل الطالبات وهمومهنّ، وتقدّم لهنّ الحلول لتجاوزها. تقول إحدى الطالبات: "كانت لي سنداً"، وأخرى تقول: "ما زلنا نشعر بوجودها بيننا"، وتردّ طالبة بالقول: "كانت تتابع تفاصيل حياتنا".
بعض الوفاء
هو بعض من الوفاء للأستاذة سهى غسّاني في ذكرى رحيلها. كلمات امتزجت بالدموع والشوق لشخصيّة استثنائيّة استطاعت أن تكون محور السكون لكلّ من حولها، فكانت القائدة الميدانيّة في معارك العلم والمعرفة ومواجهة الجهل. قادت طالباتها إلى ميادين النجاح والتفوّق، ولم تبخل بالنصيحة لكلّ من قصدها، وكان بابها مفتوحاً أمام الجميع، فكانت المعلّمة القدوة في عملها، والأمّ والزوجة المتفانية في بيتها، والمكافحة التي لا تهدأ في ميادين الحياة المختلفة. الأستاذة سهى أحد نماذج مجتمع المقاومة، الذي لطالما قدّم من رجاله ونسائه مجاهدين في ميادين مختلفة.
هنيئاً لك في عليائك هذا الحصاد. رحمك الله وحشرك مع من تحبّين؛ مع محمّد وآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.