لقاء مع الجريح المجاهد علي مشهور أبو زيد (ذو الفقار)
حنان الموسويّ
لم يكن عددنا كبيراً في "تدمر"، عروس الصحراء. توزّعنا على نقاطٍ محدّدة قرب آبار النفط، بعد أن طهّرناها ممّن أذن الله بقتالهم. وفي لحظات غدر، قام الأنجاس بإحراق نقطةٍ بمن فيها من مقاومين! مشهد احتراق الشهداء يقتل الكلمات، لا لغة تفيه حقّ الوصف! تلك الوحشيّة التي انتهجها الدواعش، استدعت منّا ردّاً حاسماً. جهّزنا النقاط بالأسلحة المناسبة، وتأهّبنا لأيّ طارئ. وزّعنا نوبات الحراسة، وفي أثناء استراحتي وشابّين معي، بدأ القصف على النقطة بشكلٍ جنونيّ. مع سقوط القذيفة الأولى، هرعنا لنمتشق أسلحتنا. كنت لم أصل بعد، حين وقعت القذيفة بالقرب من "الكلاشن" الخاصّ بي، وانتثرت الشظايا في جسدي. كنت الأقرب إلى القذيفة، فحزت النصيب الأكبر من الجراح. بقيت شراييني تغدق ما فيها من دماء، بينما رحت أرتّب صمتي، والملائكة ترتّل في الروح آيات السكينة والرحيل، وأناجي السيّدة الزهراء عليها السلام سرّاً: "إنّي لكِ الفداء، فأرجوكِ رفقاً بقلب أمّي"، وبعدها غِبت عمّا حولي.
•وعي الجهاد
وُلدتُ لعائلةٍ تتّسم بالالتزام الدينيّ، وصغيراً التحقتُ بكشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ونما فيّ هاجسٌ: كيف أناصر الحقّ؟ تكوّم في قلبي حبّ الجهاد، فزاحمت المجاهدين في المسير، وخضعت لدورات ثقافيّة وجهاديّة، حتّى تكلّفت بالذهاب إلى منطقة "الزبداني"، ومع رفاقي فرضنا طوقاً حولها وبقيت شهراً. وهناك تنقّلت في المناطق السوريّة طيلة أعوام. دافعت ورفاقي عن المقدّسات وعن الناس، ربّتنا النبوءات منذ فجر الدين على الرحمة؛ لذا لن نعتاد مهما طال الزمن والقتال على لون الدم والأشلاء. وفي كلّ معركةٍ، كان الفرد منّا يقف آلاف المرّات بين يدي ربّه، ويشكو له كيف يُجبره حقد بعض الجماعات، التي ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، على القتال والقتل، وأساس ديننا هو الرحمة.
•رددتُ يدي ونهضت
تأزّم الوضع كثيراً في "تدمر"، ومع ذلك تحرّرت بحمد الله. نُقِلنا إلى منطقة "التاسريّة" لحماية النقاط المحرّرة، مع محاولات حثيثة من التكفيريّين لاسترداد مواقعهم، فقاموا بالهجوم على نقطةٍ وأحرقوها بالمجاهدين المرابطين فيها! وصلنا الخبر أنّهم سيقومون بالهجوم على نقطتنا. جهّزنا أنفسنا لاحتواء ما قد يحدث. وعند شفّة الفجر الأولى، سقطت القذيفة الأولى خارج النقطة. وكان وقت استراحتنا بحسب تقسيم النوبات بيننا. انتفضتُ ورفاقي لنحمل أسلحتنا. ارتديت درعي مسرعاً، لكنّ القذيفة أبعدتني عن سلاحي. صرت تائهاً بين الملامح والذاكرة، كأنّي هويت داخل صندوقٍ أبيض، فأذاعت صورُ الأشخاص ترانيم مجهولة الأصداء، مرّت أمام عينيّ لتذكّرني بأناسٍ كُثر. عدت من غيبوبة الفِكر لأشاهد يدي قد بُترت من الزند، ظلّت معلّقةً بعصبٍ ضئيلٍ التصق بلحمٍ محروق، رددتها إلى الخلف كي تغيب عن ناظري، وشددتها على قدمي لأوقف نزف شريانها.
•خيمة العروج
شغلني صديقي الذي هوى ساجداً، ظننته يحتمي من الانفجار. ناديته مراراً، لكنّ صحراء الذهول سكنتني حين لم يُجِبني. عرفت لاحقاً أنّ شظيّةً اخترقت دماغه، نقلته إلى الملكوت الأعلى شهيداً. أمّا صديقي الآخر، فقد أصابت شظيّةٌ قلبَه، فقطعت شرايينه، ما إن خرج من الخيمة، حتّى ارتقى شهيداً. يدي الثانية حافَظَت على بعض العزم؛ لأحمي نفسي من الأسر، إن اقتحم التكفيريّون المكان. أكثر من ستّ عشرة قذيفة انهالت على الموقع. أمسك الخطر بعقارب الوقت من العنق، ملأت توسّلاتي أرجاء وحدتي. قلبي الذي كنت أحضن به السماء، تعثّر بعد أن وصل المسعف وزوّدني بحقنة مخدّر. بقيت ألهج باسم السيّدة الزهراء عليها السلام ، لتقبض على قلب والدتي، إن استشهدْت.
•ثلاث عشرة جراحة
نُقِلتُ إلى المشفى الميدانيّ، حيث التقيت برفيقَي الطفولة. لون الدماء الذي صبغ وجهي بعد أن مرّت شظيّة ولثمت شفتي وأنفي، والورم الذي اجتاحني، غيّرا من ملامحي فلم يعرفاني. خضعت لجراحةٍ، ولم أستعد وعيي إلّا بعد ثلاثة أيّام في مستشفى دار الأمل لشدّة نزفي. بقيت تسعة أيّام في العناية إلى أن ساءت حالتي أكثر، فنُقِلت إلى مستشفى بهمن، التي رقدتُ فيها مدّة شهرٍ ونصف، وخضعت لثلاث عشرة جراحة في ذراعيّ وقدميّ.
•"احفظيه لي"
بعد شهادة والدي، وصل خبر إصابتي إلى والدتي، بالتزامن مع تعرّض أخي للسعة عقرب، خيّل إلى أمّي أنّها أصبحت وحيدة، فأبقت ضجيج نبضها خلف جدران الصمت، واحتسبت مصابها مناجيةً السيّدة الزهراء عليها السلام: "سيّدتي، عليّ هو ابن ذاك الشهيد الذي افتدى ابنتكِ بنفسه، والذي انتقل صوته في خلايا عليّ على شكل جرعات روحٍ متقطّعة، نشيجه يُعيد ذكرى التحاف والده بآخر حفنة تراب قبّلت خدّه. هو نورٌ من نورٍ، فيا مولاتي احفظيه لي".
•كسر الصعوبات
زارني الموت مرّاتٍ ومرّات، عطره الساكن في ندوبي لم يفارقني، ظللت أتلقّف الأنين من رئةٍ إلى رئة حتّى تحسّن وضعي. استخدمتُ الكرسيّ المتحرّك مدّةً وجيزة، وخضعت لعلاجٍ فيزيائيّ مطوّل طيلة عشرة أشهر، بعدها استعدّت القدرة على السير بشكلٍ طبيعيّ. مظهري الخارجيّ كان لافتاً جدّاً؛ خاصّة الجهاز الذي ثبت على ذراعي مدّة سنتين. أنظار الناس كانت تنقاد تلقائيّاً نحو جراحي، تحديداً حين أمارس هواية السباحة؛ لذا عزفتُ عنها حياءً في بادئ الأمر، إلى أن تخطّيت ذلك لاحقاً، وبتّ أعيش حياتي بشكلٍ طبيعيّ. جمعني الله بامرأة خلوقة ومحبّة، تحمل عفّة الدنيا وبهجتها. تقدّمت لخطبتها منذ فترة، وحاليّاً نقوم بالتجهيز للزفاف. أسأل الله أن يوفّقنا.
من النِعم التي رُزِقتها أيضاً صوتي الجميل؛ قمت بترديد العديد من اللطميّات، وأتمنّى أن أكون قارئ عزاءٍ مثل والدتي وخادماً للإمام الحسين عليه السلام.
انضممت إلى فرقة "جراح" الإنشاديّة التابعة لمؤسّسة الجرحى، بعد كلّ الاهتمامات والمتابعات التي أولاها القيّمون على المؤسّسة. وأطمح إلى المشاركة في الأنشطة التي تخصّ الفرقة.
• رسالة وهديّة
للسيّد حسن نصر الله (حفظه الله) أقول: أعانك الله، يا أبانا، على بلاءات الدنيا. كلّما يمّمت بصري ناحية محيّاك، دعوتُ لك، يا صبر أيّوب الذي ربّى فينا العزم والبصيرة. مواويل المعارك عانقتنا، والعيد حين نقاتل من تُسعدهم تصاوير المشانق فوق دموع أبنائنا؛ لنكون مصداقاً للآية الكريمة: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: 29). يا سيّدي، الأمل لقاؤكم. كم أتمنّى العودة إلى سوح الجهاد! لكنّ ضعف جسدي يمنعني من ذلك.
يا سيّدي، لولا لطف الله وتسديده، ما استطعنا تحرير قريةٍ واحدةٍ من القرى السوريّة، ولا مقارعة تكفيريٍّ واحدٍ وهزيمته. بركة وجود صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ودعاؤكم لهما الأثر الأكبر في تثبيت قلوب المجاهدين، وهزيمة الجمع الذي أصرّ على سبي العقيلة من جديد، وكسر جبروت كلّ الدول التي شنّت الحرب الكونيّة علينا.
•الاسم الجهاديّ: ذو الفقار.
•تاريخ الولادة: 23/4/1995م.
•مكان الإصابة وتاريخها: تدمر 11/7/2017م.
•نوع الإصابة: في اليدين والقدمين.