نسرين إدريس
"من الصعب جداً أن يفقد الإنسان الشخص الوحيد في هذه الدنيا الذي يشعره بطعم الحياة... من الصعب أن تصبح الأيام فجأة مجرد دائرة من الذكريات وصور من الماضي... خيالات لا تفارقنا، ولا تقترب منا.. الحياة مجرد صدى يتردد في الأفئدة المقفرة..."، هذه الكلمات التي كان دوماً يقولها لي حسام، وأعيشها الآن وحدي محاولاً فهم قصده الآخر والمغزى الذي يعنيه، علّني انتشل نفسي من الضياع في سوداوية أحاديثه التي لا أفقه سوى الظاهر منها، أنا الذي تخرجت من الجامعة، وهو الذي تعلم من الحياة ما أحاول جهدي أن أتعلمه، تعلّم من مأساته فأصبح فيلسوفاً، وصرت أنا مجرد صديق تائه في إرث من الكلمات تركه الشخص الوحيد الذي أحببته بصدق، فكان رفيقاً لي في كل دروبي، غير أنه سبقني بخطوات إلى حيث السكينة، وأنا لا زلت على قارعة الطريقة أنتظر سماع صافرة قطار الرحيل.
أنا، وقبر حسام، وصورته، وصدى كلمات قالها، كما كنت أنعته بالمتشائم جداً، وأقنعه بأن ينظر ولو مرة واحدة إل ىالحياة بنظرة أمل، فيضحك قائلاً: "الحياة! ما هو محلها من الإعراب في اللغة العربية التي درستها في الجامعة! ويستهزئء بكل شيء لكنه، يبقى هو، بكل ما يملكه من الحزن والدمع والصمت الذي لم أعرف أن أكسره لأصل إلى أعماقه...
سنوات طويلة مرت نحن صديقان، لا أذكر منذ متى، فما تختزنه ذاكرتي أني مذ كنت صغيراً جداً وحسام صديقي الحميم، فكنا نلعب معاً وندرس معاً ونذهب إلى المدرسة سوياً، ونادرة جداً هي الأوقات التي مرت دون أن نكون متلازمين، تقاسمنا الأفراح القليلة، والأحزان الكثيرة، والآلام والطموح والأحلام... كنت وحساماً نفساً واحدة، وهدفاً واحداً، إلاّ أن الحزن الساكن في مقلتيه هو الشيء الوحيد الذي كان يشعرني أنه بعيد جداً عني وعن هذا العالم... فلم تغب لمحة الحزن عن وجهه يوماً واحداً، حتى عندما كان يضحك كانت الدموع هي وسيلة التعبير عن فرحته وأعترف أن المرة الوحيدة التي لم أر الحزن في عينيه، عندما جئت لأودعه الوداع الأخير، وقد لفّ جسده بالكفن الذي اشتريته له هدية من جوار مقام الإمام علي الرضا عليه السلام في إيران وكان أوصاني أن أمسحه بالمرقد الشريف، وحين أعطيته إياه، مسح به وجهه وبكى، وسمعته يتمتم "غريب يلاقي غريب"، فانسحبت يومها وتركته لمناجاته الشجية التي يصرخ فيها بصمت: "يا علي الرضا عليه السلام أدركني"... تلك كانت المرة الأولى والأخيرة التي رأيت فيها بسمته الصافية.
وحسام الرقيق كنسمة ربيع هادئة، الصلب كشجرة تتحدى الرياح العاتية، الذي كانت عاطفته في بعض الأحيان تغلب عقله، مقدام شجاع في كل ميادين الحياة: فقد ترك المدرسة ليعمل وليتحمل مسؤولية أخوته الأربعة إلى جانب والدته التي سرعان ما وافتها المنية تاركة له الفراغ، فكانوا يلوذون به كما يلوذ الأبناء بآبائهم، على الرغم من أنه كان في سنِّ أشد ما يحتاج الولد إلى والد يشكو إليه ويساعده، وكثيراً ما حاولت أن أسأله عن والده الذي غادر القرية مع الجيش الصهيوني ليصبح ضابطاً في أمن ميليشيا لحد، لكنه دائماً كان يتحدث عنه كأنه غير موجود، ولم تشكل عماله أبيه عقدة في نفسه، فكان واثقاً من نفسه ثقة حسده عليها أصدقاؤه، حتى في أحد الأيام عندما كنا ورفاقنا في ملعب كرة القدم رفض "سامي" أن يلعب معه وقال: "لا أريد أن ألعب معك يا ابن العميل"... فأجابه بهدوء أفقدني صوابي: "أو لا تريد أن تصلي خلفه، أم أنك لا تذهب إلى المسجد؟ وعندما اقتربت لأبرز له عدم وعي ذلك الفتى أجابني: "لا تداو جرحي بجرح الآخرين، سنرى غداً إن كانت عمالة أبي ستدخلني النار، أو حج أبيه سيدخله الجنة"!!.
من أين لك هذه القوة يا حسام، كيف تستطيع أن تتحمل كل ذلك، وأنت لا تزال في الرابعة عشرة من العمر.. سألته مرة وأنا أجلس بالقرب منه وهو يزرع الحقل الذي يعمل فيه.
"من هنا". ووضع يده على قلبه. "تعلّم أن تكون قوياً من هنا، إذا شغف قلبك، حسرت كل شيء، فليكن دوماً خيارك في الدنيا ما يمليه عليك قلبك، فالفؤاد لا يكذب أبداً... أحبب الآخرين لذاتهم، بعيداً عن كل شيء...
من أين تعلمت هذا الكلام يا حسام؟ أشعر أني أتحدث مع رجل في الثلاثين من عمره!
وهل تظنني أصغر من ذلك يا صديقي، إنه من السخف جداً أن تحسب الأعمار بالسنوات التي تمر في حياتنا.
أي مأساة تعيش يا صديقي؟
أعيش الحزن الذي يتعرش في داخلي كما الساعات تلد الأيام، أعيش الغربة والوحدة في مكان وزمان مليئين بضجيج الناس.
ولكني صديقك، وسأبقى كذلك حتى آخر يوم في عمرنا، أعدك بذلك.
وفعلاً، كبرنا وبقينا سوياً، وكبرت معنا روح الثورة والجهاد، حسام التحق بصفوف المقاومة الإسلامية، وأنا بدأت أتحضر للسنة الأخيرة في الجامعة، وكنت ومن حين لآخر أذهب لأقضي بعض الوقت في القرية... وخلال مشاركتي يوماً بالمرابطة في مكان ما من المحاور التي جمعتني و"حسام" و"سامي" قام الطيران الإسرائيلي بقصف عشوائي إثر عملية للمقاومة، فأصيب سامي بقدمه ما جعله يفقد القدرة على السير. فحمله حسام على كتفه مسافات طويلة، وكنت أظن أنه نسي تلك الكلمات التي طواها الزمن بسنينه، إلاّ أنه حين عاده في المستشفى، قال له قبل أن يخرج "عجيب كيف قبلت أن يحملك ابن العميل على كتفيه، ألم يكن لعب الكرة أقل شأناً من ذلك...! وخرج فيما راحت الدموع تنهمر بغزارة م عيني سامي، لكأن "حسام" كان ينتظر كل هذه السنين ليجيبه على كلمته تلك، شعرت حينها أنه يحتفظ بكل شيء في داخله إلى أن يأتي يوم ويعبَّر عنه بلغة صحيحة وقاسية كانت أم رقيقة!!.
ثم يعنيه شيء من أمور هذه الدنيا، أيامه ولياليه دوماً يقضيها في المحور، فهناك فقط كان يجد نفسه يجلس صامتاً منتظراً مترقباً... وفي أحد الأيام سرنا سوياً في قادومية بعيدة عن بيوت القرية وتحدثنا في عدة أمور، منها توجهي إلى العاصمة في صباح اليوم التالي... جلس حسام على صخرة صغيرة وراح يرسم وجه التراب بغصن شجرة صغيرة، اقتربت منه، فإذا عيناه مليئتان بالدموع.
"أنت تبكي يا حسام؟ إني لأعحب أن أرى دموعك أنت القوي!
ولكن هذه الدموع هي رمز القوة أيضاً لأن صدقها دليل على أن ما ينبض في هذا الصدر قلب وليس آلة للحياة.
وما الذي يبكيك؟
ربما لأني أفقتد أمي كثيراً، فقد كانت كل شيء في حياتي، أو ربما مللت من الانتظار، أو ربما أفكر بأبي!
وما الذي جعلك تفكر في هذا الموضوع الآن، ظننت أنك نسيته، فأنت لم تأت على ذكر اسمه أبداً أمامي.
وكيف أنساه، وأنا كيفما سرت أتخيل أنه سيأتي من بين الأشجار إني ألمح وجهه بين حبات التراب، أفكر أحياناً ماذا لو صار قتيل سلاحي! أتظن ذلك؟
أرجوك، دعك من هذه الأفكار المتضاربة، انتبه إلى نفسك فأنت متعب لم لا تمنح نفسك قليلاً من الراحة؟
يبدو أني سأفعل، أعدك.
وودعته على أمل أن أراه صباحاً قبل أن أتوجه إل العاصمة، وفعلاً رأيته، لكن للمرة الأخيرة، فقد بلغني أحد الأخوة أنه جريح في المستشفى، فقد توجه ليلاً بدع أن غادرته للمشاركة في مهمة على أحد المواقع وقد أصيب إصابة بالغة خلال الاشتباكات.
جلست بالقرب منه، كان يتنفس ببطء، قال لي بصوت وقد رفع يده ووضعها على قلبه قائلاً وقد بانت على وجهه علامات الفراق: تذكر، من هنا تكون قوياً، قوياً بذاتك وبالله وليس بشخص أو مركز.. من هنا يكون الخيار الصحيح، لا تكن تابعاً سوى لله ولأحكامه، ولا تتبع المجتمع وأقواله وقوانينه، فليكن فؤادك مصدراً لحياتك، فليس الموت السكن تحت التراب، الموت هو القلب الخالي، فالحياة يا صديقي مجرد صدى يتردد في الأفئدة المقفرة، وعندما يختارك الله تسمع الصوت الحقيقي للحياة، "الله... الله".