إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

مع الشهداء محمد، يوسف وحسن عبد الحسين حدرج


تحقيق وإعداد: نسرين إدريس


الاسم: محمد عبدالحسين حدرج
اسم الأم: مريم طباجة
محل وتاريخ الولادة: البازورية 1966
رقم السجل: 75
الاسم الجهادي: رضا
تاريخ الاستشهاد: 24/2/1985

الاسم: يوسف عبدالحسين حدرج
اسم الأم: مريم طباجة
محل وتاريخ الولادة: البازورية 1967
رقم السجل: 75
الاسم الجهادي: محسن
تاريخ الاستشهاد: 11/4/1985

الاسم: حسن عبدالحسين حدرج
اسم الأم: مريم طباجة
محل وتاريخ الولادة: البازورية 1968
رقم السجل: 75
الاسم الجهادي: أبو حسن
تاريخ الاستشهاد: 4/7/1987

صور ثلاثة شبان، وعينا أم حائرة تبحث في فراغ المكان، في ضياع الزمان عن ظلال سكنت حنايا قلبها، عاشت في دروب أيامها.. ظلال كانت تعطي اللون للحياة، والمعنى للبقاء، غير أنها سرعان ما أبحرت في سفن الغياب دون وداع تاركة الصمت يقبع فوق شفاهٍ ما فتئت وتستدير ملقية برأسها على كتف الزمن، تسترجع ذكرياتها المنسوجة على ضفاف قلبها، تسأل نفسها: من أين تبدأ بالحديث؟ وكل الكلمات تؤدي إلى حيث تمتزج البدايات مع أفق النهايات! ويضيع الفؤاد في دروب الدمع المحفوف بالشوق، فتذكر اسماً.. اسمين.. ثلاثة.. "محمد، يوسف.. وحسن"، أجل، لقد كانوا ثلاثة، رزقت بهم في سنوات متتالية فكانت أعمارهم المتقاربة سبيلاً لأن تتوحد أنفسهم وأفكارهم وعقيدتهم، ولم يكن هناك شيء يفرق بين أرواحهم المتحدة سوى حدود أجساد سرعان ما جعلوا منها معبراً للقاء خالد وتوحداً في عشق واحد.. فلم يكن بالشيء الغريب عليهم أن يحملوا الروح الثورية الحقة، إذ إنهم تربوا في منطقة كانت بوابة جهاد لكثير من المجاهدين الذين {منهم من قضى نحبه}، ومنهم من لا يزال ينحت على الصخور أحلام رحيل هانئ... وإن كانت منطقة حي ماضي قرب "العزارية" تمثل شريطً مصوراً من أهم أحداث مراحل الكفاح خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بعده أيضاًً، فإن لهذه المساحة الصغيرة عبقاً رائعاً من ذكرياتهم، يفوح من أرجائها ليضفي بعداً آخر لهذا المدى الملون بالنجيع..

فهناك كانت وجوههم الطفولية الطافحة بالجمال الرقيق والملامح الملائكية تجوب شوارعها لعباً، وخلف جدرانها اشتدت سواعدهم لتمسك بالبندقية دفاعاً عن الدين وحرمات الأمة، وليس غيابهم الآن عنها سوى اتحاد بين أجسادهم وترابها الذي رووه بدمهم الطاهر ليصبحوا أكثر التصاقاً... لقد آمنوا بحرية هذه الأرض، عاشت في وجدانهم انعكاساً لمشاهد الصراع بين الحق والباطل، فتسلحوا بالحق دفاعاً عنها، ونسجوا من عمرهم الوردي نقاباً لوجهها الطاهر.

مذ كانوا صغاراً وهم يحملون بين أسفار عيونهم وعداً وأملاً بغدٍ حالم. وفي بيتٍ يهنأ بالطمأنينة والسكينة والإيمان باللَّه تعالى، عاشوا أيامهم المليئة بالحب والخير لبعضهم، وكان تلاصقهم الدائم مشداً رائعاً من الارتباط الوثيق، ففي صغرهم كانوا يستيقظون صباحاً ليرتدوا ثيابهم المدرسية المتشابهة، يمسك الواحد بيد الآخر ليتوجهوا إلى مدرسة "نهج البلاغة"، وحين ينتهي الدوام المدرسي يعودون إلى المنزل وأيديهم متشابكة، يدرسون معاً، يعاونون بعضهم على الدروس الصعبة، يتحادثون في أمور شتى جرت معهم خلال النهار، وإذا ما انتهوا من واجباتهم المدرسية، سرعان ما يتوجهون إلى مركز كشافة الإمام المهدي القريب من منزلهم، حيث يقضون معظم أوقاتهم منهمكين بالمشاركة في النشاطات المميزة... وكان مركز الكشافة بالنسبة إليهم نافذة مشرّعة أمام عاصفة الفكر الثوري التي أطلقها الإمام الخميني قدس سره، ومن خلال الدروس التي تلقوها هناك تعرفوا عن كثب إلى شخصية الإمام قدس سره الفذة، ما جعلهم "يذوبون في الإمام كما أذاب في الإسلام".

 وهذا الذوبان "الخميني"، الذي كان وصيتهم لأهلهم ورفاق دربهم، كان المبدأ الأول الذي تعلّموه وعاشوه بكل جوارحهم، وأثّر تأثيراً بالغاً في شخصيتهم المميزة، فإذا بهم روح واحدة، تسعى في ليلها ونهارها للوصول إلى عالم ملكوتي، عالم العشق المطلق الذي تصبو إليه نفس كل مؤمن صادق. فما بين محمد ويوسف وحسن، ليس رباط دم، فحسب، بل حلم وقضية ومسيرة كفاح طويل. فكانت وجوههم المتلألئة ليلاً وهم صغار يهتفون "يا مهدي أدركنا" و"إلهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني"، تعطي الصورة الواضحة لنظراتهم الشابة المليئة بالعنفوان والعزيمة في سلوك طريق ذات الشوكة، فبعد أن كانوا كشافة صغاراً أضحوا قادة كباراً، وبين حراسة الكوادر ليلاً، وتوزيع المنشورات الدينية والسياسية وبيع جريدة لعهد، والالتحاق بالدورات العسكرية، والمشاركة بالحلقات التي كان يعقدها الحرس الثوري، كانت أيامهم تنقضي وهم يشبّون، ويشبّ معهم همّ مسؤولية تحرير الجنون والقدس. إلى جانب ذلك لم يكن والداهم ليمنعاهم من السير في تلك الدرب النورانية، وهما اللذان كانا يصحبانهم بدعائهما، ورضاهما، حتى أنّ والدتهم كانت تلبسهم الجعبة قبل أن ينطلقوا للقيام بأي عمل، وهي التي أحبوها حباً لا يقاس، فكانوا يهدّئون من روعها إذا ما اضطروا للرحيل بأن هذا الغياب إذا كان بين اللَّه فهو بقاء أزلي.

اجتاحت إسرائيل لبنان، وأُعلِنت التعبئة العسكرية والكفاح المسلح، ولم تكن اهتماماتهم المدرسية ـ وهم المتفوقون في دراستهم ـ لتثنيهم عن الالتحاق بصفوف المجاهدين، على الرغم من أن أكبرهم في ذلك الوقت كان يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً، فكانوا من المشاركين الأوائل مع الثلة المخلصة المؤمنة التي خاضت معركة الانتصار في منطقة "خلدة" أولئك الأخوة الذين جعلوا من أجسادهم الفتية جداراً من الرفض والصمود أمام العدو الصهيوني الذي تراجع آخذاً معه ذيول الخيبة والهزيمة أمام تلك القبضات الحسينية، التي كتبت بالدم تاريخ المقاومة الإسلامية المشرّف، والتي ما فتىء أبناءها يسطرون أرقى العطاءات والبطولات حتى اليوم إلى أن تصبح الأرض حرّة مصانة.
فكانوا يقضون أوقاتهم ورفاقهم المجاهدين في إحدى غرف المنزل التي سرعان ما تضج بأحاديثهم، وترانيم دعائهم ومناقشاتهم الدينية، وخططهم العسكرية، أضف إلى أنها كانت شبيهة بمخزن أسلحة، ما جعل محمد ويوسف يتعرضان للاعتقال والضرب، وفي أثناء مداهمة المنزل أمر أحدهم محمداً أن يركع، فصرخ في وجهه: "أنا لا أركع إلاّ للَّه"...، وبقيا حوالي أسبوع سجيين.

وكما الحرب هي التي تصقل الرجال، تكون هي السبب في غيابهم، ووجهاً بعد آخر، بدأ يعتري تلك الغرفة الدافئة بأنفاسهم، صقيع الغياب، فبعد استشهاد عدد من رفاق الدرب، ضاق المكان بهم، فكانت هذه الدنيا لا تتسع لأشواقهم المسافرة إلى حيث يكون الرضوان الإلهي. وكان بداية صفحات الاستشهاد عندما انطلق محمد متوجهاً إلى الجنوب للمشاركة في الجهاد ضد العدو الصهيوني، وبدا غياب دام أربعة أشهر استشهد في عملية سهل طيردبا ـ السويدا، وبقي جثته مفقودة مدة شهر إلى أن عثر عليها أحد الفلاحين وتمّ سحبها.

كا التشييع مؤثّراً جداً، شارك فيه كل الأهل والأحبة، وبعد شهر من الغربة فوق ترابٍ جاف، احتضن تراب روضة الشهيدين جسده الندي لينبت منه آلاف الزنابق الطاهرة، إلاّ أنّ وجه يوسف كان الغائب الأبرز عن هذا التشييع لأنه كان مرابطاً على الثغور في الجنوب، وقد بعث برسالة إلى والدته يطلب إليها ألا تحزن، وأن تتكل على اللَّه، وأن تتفهّم ـ كما كانت دائماً ـ التكليف الشرعي المُلقى على عاتقهم جميعاً، وبين لحظات الانتظار ودموع الحزن، وبعد مرور خمسة عشر يوما على دفن الشهيد محمد، عاد يوسف من غيابه محملاً على أكتاف رفاقه المجاهدين بعد أن مضى على استشهاده ستة أيام، وقضى نحبه إثر عملية في العباسية ضد إسرائيل، عاد بعد أن حملته أجنحة الشوق ليسكن بالقرب من جسد أخيه، ليجاور تراباً يسكنه حبيبه.

غاب وجه محمد، وسكت صوت يوسف الذي كان يصدح في صمت ليالي شهر رمضان بنشيد "رمضان تجلى وابتسم" وبقي حسن، يحمل بين جنبيه رائحةً من أخويه اللذين لم يستطع أن يتحمل فراقهما، فكان كمن فقد الهواء والماء في الصحراء الحياة القاحلة، ولم يكن الغد بالنسبة إليه سوى سراب يتراءى له، وهو الذي يحمل كفنه على كتفه، ينتقل من موقع إلى آخر، ومن محور إلى محور ليكمل السطور التي بدأ وأخويه بكتابتها معاً. وكان في الأيام الأخيرة قد بدأ بمزاولة العمل الإعلامي، هذا ما هذا من روع والديه اللذين تعلقا به بعد غياب محمد ويوسف، ولكنّ بقاءه الذي كان يملأ فراغ أخوته لم يدم طويلاً، ففي ذات ليلة تعرّض وأحد الأخوة لعملية الاغيال بعبوة ناسفة وضعت في سيارتهما، وهكذا كان لا بدّ لموكب العرس الثالث أن يسير، ثلاثة شبان إلى جانب بعضهم البعض، استشهدوا جميعهم قبل أن يبلغوا العشرين من العمر، غادروا هذه الدنيا في ربيع عمرهم تاركين للشتاء أن يستوطن بعدهم كل الفصول التي ما عادت تعرف سوف عواصف البكاء والحزن..

محمد، يوسف وحسن {إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى}، هم، والشهداء أمثالهم صانوا كهف الأمة بدمائهم، فسلام عليهم، وسلام على المجاهدين البواسل في المقاومة لإسلامية أبداً من بقي الليل والنهار...
من وصية الشهيد محمد: "أخوتي المؤمنين، جاء الإمام الخميني(قدس سره) ليعرفنا إلى ديننا دين الحق، وينزع عنا مفهومنا المادي للأشياء، ويزرع في نفوسنا الروحية الإسلامية حتى الاستشهاد، جاء ليذكرنا بتاريخ الأمة والأنبياء، فادعوا اللَّه أن يثبت خطاكم على هذا النهج المبارك، كونوا مع اللَّه في كل قضاياكم، كونوا أقوياء بقوة الإيمان، أشداء على الكفار رحماء بينكم".
من وصية الشهيد يوسف: "إن نهج الإمام الخميني العظيم أمانة في أعناقكم وعليكم بالتزام أوامره ووصاياه، وقوموا بتكليفكم الشرعي، والانتصار هو للإسلام إن شاء اللَّه..".
من وصية الشهيد حسن: "تابعوا هذه الطريق، طريق ذات الشوكة، التي لا يصبر عليها إلاّ المخلصون للَّه، وجاهدوا في سبيل اللَّه بكل ما تملكون فإنه لا يضيع أجركم، واعملوا لتبقى المقاومة الإسلامية مصانة عزيزة".


 

أضيف في: | عدد المشاهدات: