نسرين إدريس
أرنو إليك يا وليدي، أبحث في تقاسيم وجهك الباردة عن شرارة واحدة من الحياة، فلا أرى غير ابتشامة الرضا مرسومة على شفتيك الصامتتين تُحاكي وجودي الكئيب، وليست الحياة شيئاً يا حبيب عمري إن لم تكن موشومة بالرضى...
أرقبُ جئتك الممدّدة أمام ناظري في ثوبها الأبيض الملون بكلمات دعاء "الجوشن"، فأسمع همسك قريباً مني يشدو به... همسٌ وصدى وبقايا ذكريات، وأنتَ ساكن هادىء... بعيد كل البعد عن ضجيج أفكاري وعواصف الحزن الآتية من كل لحظة من لحظات الزمن الذي جمعنا، زمن مر كأنه لم يكن، أحسه الآن كحلم جميل في غفوة قصيرة لعمري الذي كتب بالقهر...
هل حقاً رحلت؟!
آه، هل رحلت؟... أنا لازلت أنتظرك طفلاً تعود عند العصر متعباً من اللعب، وقد تركت الشمس آثارها على وجهك، وتلقي بنفسك في حضني لأمسح عرق جبهتك بأناملي وأناغيك... أو تجلس أمامي لتكتب فروضك بهدوء حيناً وبتأفف أحياناً، وتشارطني إذا ما حفظت درسك بسرعة أن أسمح لك باللعب على دراجتك أمام المنزل.. أما في الليل فكنت تأتي لتجلس بقربي على الشرفة وتعدّ النجوم لتنتقي من بينها أكثرها لمعاناً فتتخذها صديقةً تحدثها عن أحلامك المليئة بالخيال، حتى أضيع أنا في كلماتك المتأرجحة بين الصحو والسهاد، إلاَّ أنك وقبل أن تغفو، تحمّلها أمانة السلام لشخصين؛ صاحب العصر عجل الله فرجه الشريف، ووالدك..
كان يحرقني يتمك يا ولدي، وتلسعين سياط أسئلتك وأنت في السادسة من العمر عن موعد قدوم والدك، فأبقى حائرة في أجوبتي التي لن تشفي شوقك إلى رؤيته، فكنت إذاً ما رسم شعاع الشمس ألوان الغروب أخذت بيدك ورحنا نسير في شوارع القرية الساكنة لنصل إلى المدفن، فتنسل يدك من يدي وتركض بين القبور كاسراً هدوء ساكنيها، لتجلس بالقرب من قبر والدك تغسله وتمسح صورته، وتشعل البخور الذي يبدأ دخانه يتصاعد نحو السماء فتلاحقه عيناك اللتان ما تلبثان أن تستقرا على تلة أقام عليها اليهود موقعاً جعلوا منه لعنةً يصبون عبره جام غضبهم وحقدهم على قريتنا والقرى المجاورة، وسرعان ما تلتفت شمالاً حيث يشمخ جبل صافي، هناك حيث استشهد والدك..كبرتَ، وصار الغد المشع بين عينيك يتلألأ في فؤادي رغبة في أن أحمل أطفالك، أن أرى الاستقرار والهدوء مسيطرين على أيامك التي تقضيها متنقلاً من مكان إلى مكان، ومن سهل إلى جبل، كنت أريدك أن تنظر إلى نفس الجهة التي تصبو إليها نفسي، لكنك رحلت مبكراً، حتى وأنت أمامي لم أكن أشعر أنك ترى بعينيك أو تسمع بأذنيك أو تتحدث بصوتك، كل شيء تغير فيك حتى أنت، لم يتبقَ منك سوى ذاتي التي أنت سكنها، والآن صارت بلا مأوى، اختلفت الأيام بيننا، أنتَ تقضي أيامك تعد الساعات واللحظات متفكراً منتظراً ساعة الرحيل، وأنا أرجو الله أن يؤخرها عن موعدها ولو ساعة..
وشتان يا حبيب عمري بين دعائي ودعائك!
كنتُ أظن يا رفيق دربي، أن أقصى ما يمكن أن يصيب المرء هو الموت، ولم يخطر ببالي يوماً أن البقاء دونك أقسى من الموت..
أرفع يدك أي بني: لوّح لي تلويحة الوداع الأخيرة.. قل شيئاً، أي شيء.. ولا تترك الصمت يقف في ما بيننا.. ليتك تأخذ قلبي تحيا به، فيكفيني أن تكون أنت ولا أكون، ولكنك اخترت الحياة التي لا نهاية لها، سافرت عني إلى الله، إلى أحبائك الذين اخترتهم بدلاً مني، وليس حباً يا ولدي أن أجعل الأحزان تأخذني برحيلك، وأبقى في يمّ أنانيتي أناجيك، وأعتب عليك، فأمنية أي إنسان في هذا الوجود يملك قلباً يعشق بصدق أن ينال حبيبه ما اختار لنفسه... فهنيئاً لك سفرك يا كل نفسي، أيها المهاجر عني إلى الله رضىً...