الشيخ الشهيد راغب حرب (رضوان الله عليه)
أنزل الله تعالى علينا الكتاب، وأنعم علينا بهذا الدين، إذ قال في كتابه الكريم: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ...﴾ (الحج: 78). ليس في الدين أي حرج، ويمكن لكلّ إنسان أن يطبّقه كلّه، شرط أن يوجِّه وجهه لله، وعندما توجِّه وجهك كلّه لله تستطيع أن تطبّق أحكام الإسلام ودون حرج.
* الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أسوةٌ حسنة
تكمن أهميّة الإسلام في أن الله جعل عليه شهداء طبّقوا أحكامه وكانوا لنا الأنموذج، قال تعالى: ﴿لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21). فلا يستطيع أحد أن يقول "لا أستطيع أن أكون مثل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم".. لماذا لا تستطيع؟ لم يخلق الله النبي خلقة خاصّة، فالنبيّ هو صنع نفسه بالاختيار. وعندما تتأسّى بالنبيّ تصبح تقيّاً، وبإمكانك أن تصل إلى درجة تقترب معها من درجة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام.
* نفهم الأئمّة عليهم السلام من القرآن الكريم
من خلال القرآن نستطيع أن نفهم حياة الأئمّة عليهم السلام. فإذا قرأنا حياتهم من باب آيات القرآن الكريم نجد أنّنا أمام طرق بيّنة وواضحة، ليس فيها عائقٌ أبداً.
في القرآن الكريم آية تقول: ﴿وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الأنعام: 78)، والآية: ﴿إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام: 162) فلو جعلنا هذه الآية ميزاناً نقرأ من خلاله حياة الإمام الحسن عليه السلام، ماذا نجد؟ لقد وُلد الحسن والحسين عليهما السلام في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال فيهما عليهم السلام أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة"، "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا"، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن أحبّهما فقد أحبّني، ومَن أبغضهما فقد أبغضني".
* طريق الدنيا نجْدان
لقد عاش الإمام الحسن عليه السلام مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، في مراحل حياته. عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. عندما كان معتزلاً الحياة السياسيّة المباشرة، وقد تخلّى عن بعض المواقع المتقدّمة لمصلحة الإسلام. وقد رأى أمير المؤمنين عليه السلام موجّهاً وجهه لله حنيفاً، إذ ينسحب حين يكون في انسحابه مصلحة للإسلام، فينسحب الإمام الحسن عليه السلام معه. وفي فترةٍ أخرى حين يتقدّم موجّهاً وجهه لله يتقدّم معه؛ وحتّى عندما قاتل، قاتل معه.
إذا أردنا أن نفرّق بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، يمكن ذلك ببساطة، طريق أهل الدنيا هي طريقٌ على غير الهدى، أمّا الدنيا التي هي على الهدى، فهي طريق الآخرة، وهي التي تسترشد بإرشاد الله، وبهدى الله. نعم، في طريق الدنيا نجدان: نجد جنةٍ، ونجد نار. أهل النار يُعرفون بسيماهم، وأهل الجنّة يُعرفون بسيماهم.
* الإمام الحسن عليه السلام كلّ حياته لله
الإمام الحسن عليه السلام -بعد استشهاد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام- بويع خليفةً للمسلمين، وعسكر بجيشه في النخيلة، ثمّ خرج لملاقاة المنشقّ معاوية بن أبي سفيان. آنذاك ولمّا رأى أنّ جيشه يكاد يضطرب، ويصطدم بعضه ببعض، رأى أنّ انسحابه من هذا المعترك فيه مصلحة الإسلام فانسحب ودون أن يحفظ لنفسه أيّ موقع من مواقع الدنيا، انسحب عليه السلام وشرطه الوحيد أن يحفظ الإسلام، وأن يحفظ المؤمنين، وأن تُراعى حُرمة القرآن.
وجد الإمام الحسن عليه السلام أنّه أمام خللٍ في القاعدة، فترك موقعه الذي هو فيه فوراً، والذي فيه شيئٌ من وجاهة الدنيا وزينتها، وانسحب إلى القاعدة ليعمل على حفظها. لم ينسحب لأجل سلامته، بل انسحب ليعمل في موقع آخر، عمل في القاعدة وبين المسلمين، إلى الدرجة التي استشعر عدوّه فيها خطر وجوده أيضاً!
* وجوده خطر على الأعداء حيّاً وميّتاً
توجد في التاريخ حقائق عدّة، قد لا نلتفت إليها، لأنّ التاريخ ينقل الأحداث الكبرى، أمّا أبرز التفاصيل فلا يحكيها، لذلك عندما تقرأ التاريخ ينبغي أن تدقّق في بعض الأحداث الصغيرة؛ مثلاً في حياة الإمام الحسن عليه السلام، استشهد الإمام في السابع من صفر، ومات مسموماً، ثمّ مُنعت جنازته من الدخول إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ لماذا تمنع جنازة هذا الإمام من الدخول إلى مسجد الرسول؟ هذا الحديث التفصيلي يكشف ذلك، وأن وجود الإمام في حياته كان خطراً، وهو في مماته أيضاً يشكّل خطراً على أعدائه. وهذا الحدث التفصيلي يكفي شاهداً لكشف المسألة. الإمام الحسن عليه السلام كانت حياته لله وكان مماته لله أيضاً.
* لماذا يموت في السجن مسموماً؟
إذا قرأنا حياة الإمام الكاظم عليه السلام من خلال القرآن أيضاً، نجد أنّه عليه السلام وبعد أن تولّى إمامة المسلمين، بعد أبيه الإمام الصادق عليه السلام، قضى أكثر من 15 عاماً من حياته في السجن، حتى لُقّب عليه السلام بالكاظم لشدّة صبره وكظمه في الله، ثمّ بعد ذلك قضى مسموماً أيضاً. يقول أحد أصحابه: لمّا رأيت جنازته على الجسر، وكنت أنتظره بناءً على وعدٍ سابق، كشف طبيب عليه ليعلم سبب وفاته، ففتح كفّه، وقال: إذا كان لهذا الرجل أهل، فليطالبوا بدمه، فإنّ الرجل قد مات مسموماً، لماذا يموت الإمام الكاظم عليه السلام مسموماً؟ الجواب واضح، إنّ هؤلاء الأئمة وجّهوا وجوههم لله، كانت صلاتهم ونسكهم وكان محياهم ومماتهم لله، لم يكن لهم خيار أن يكونوا في موقع الحياد. إنّ موقع الحياد هو جزءٌ من مواقع الضلال، جزءٌ من مجالس الشيطان... لا خيار للمؤمن ولا خيار للإنسان فيه إنّما هما نجْدان: نجْد جنّة، ونجْد نار. إذا لم تكن في نجد أهل الجنة، إذاً أنت في نجد أهل النار.
* اللصوص تكره مصابيح الهدى
الإمام الحسين عليه السلام يقول: "والله لو كنت في جحر هامةٍ من هذه الهوام لاستخرجوني وقتلوني". لأنّ المسلم لا يمكن أن يقبل التزوير في الفكر، ولا الظلم، ولا الاغتصاب ولا إراقة كرامة الإنسان. [وهو ما أراده أعداء الحسين عليه السلام].
إنّ اللص إذا أراد أن يسرق، ووجد مصابيح تضيء الشارع، لا يطيقها بل يعمل على إزالتها لأنّها تكشف حركته. مصابيح الهدى هم هدفٌ دائم لهؤلاء اللصوص. والواحد منّا عليه أن يختار بين أمرين؛ إمّا أن يكون جزءاً ممّن يحمون ويحافظون على المصباح، أي كُن مصباحاً أو حامي المصباح، ولا تكن لصاً أو حامي اللصوص. فإذا لم تكن في الحياة مصباحاً فكن حامياً لمصباح.
* لا تكونوا حماة جاهليّة
باختصار نتعلّم من أئمتنا عليهم السلام أن نوجّه وجهنا لله، الذي فطر السماء وبسط الأرض، حنفاء مسلمين، وأن تكون صلاتنا ونُسكنا ومحيانا ومماتنا لله رب العالمين. هذه قيم الحياة الصحيحة... أمّا إذا أردنا أنْ نستمر برؤية الحياة من خلال قيم الجاهلية، فلا نستطيع رؤية غير الجاهلية.
الجاهلية لصّ يسرق منا الحياة. تعلّموا بكلّ ما أوتيتم من قوّة أنْ تنتزعوا جذور الجاهليّة من حياتكم، بتوجيه وجوهكم إلى الله وقلوبكم وعقولكم أيضاً. أعطوا الله جماجمكم، تِدوا في الأرض أقدامكم، تزول الجبال ولا يزول شيءٌ منكم. أسأل الله تعالى أن يوفّقنا لمرضاته ولطاعته. اللهمّ، "هَبْ لنا [لِيَ] الْجِدَّ في خَشْيَتِكَ"، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "رَبِّ، قَوِّ عَلى خِدْمَتِكَ جَوارِحنا [جَوارِحي]، وَاشْدُدْ عَلَى الْعَزيمَةِ جَوانِحنا [جَوانِحي]، وَهَبْ لنا [لِيَ] الْجِدَّ في خَشْيَتِكَ، وَالدَّوامَ فِي الاتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ".
(*) من خطبة جمعة، بتاريخ 28/12/1979م.