مضى ثلاثون عاماً، لكن ما زلنا نشمُّ عبق حضوره، وعندما تزور ضريحه، يلفتك هيكل السيّارة السوداء المحترقة، التي أرّخت ذكرى أليمة؛ قرية "تفاحتا" في 16 شباط 1992م، حيث أقلّت هذه السيّارة صاحب الظلّ الأخضر وزوجته وحُسينهما الصغير. صادف يومها إحياؤه الذكرى الثامنة لشهادة ذي العمّة البيضاء، شيخ الشهداء، الذي ألان الله له حديد الموقف ليصير أمضى سلاح.
على الرغم من مرور تلك السنين، ما اختفى خوف "إسرائيل" من هامتَين، ما زالتا تحفران فينا عزّةً وقوّةً وعنفوان الأديم، وخُلقاً من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
من ذاكرة المُحبّين، قصصٌ حفرت عميقاً، نقرأ صداها في هذه الأوراق.
* صاحب الظلّ الأخضر
يروي أحد الإخوة المرافقين مجموعة مواقف تعلّم منها الكثير في محضر السيّد عبّاس، الذي لم تشغله مسؤوليّة العمل عن مظاهر الرحمة، كما تروي أخته السيّدة منيرة بعضاً من ذكريات النجف:
1- واجبي أن أبقى مع الناس: كنّا في جولة ميدانيّة يوماً، فاحتشد الناس حول السيّد، وكان هناك من يحاول الاقتراب منه، فمنعته من ذلك، وإذ بالسيّد يرمقني بنظراته التي جعلتني أفسح الطريق أمامه. وعندما وصلنا إلى الشقّة، قال لي: "لماذا لم تسمح للناس بالاقتراب منّي؟!" فقلت له: "واجبي أن أحميك يا سيّد". فقال: "صحيح، أنت تقوم بواجبك، ومن واجبي أيضاً أن أبقى بين الناس"!
وفي يومٍ آخر، كنّا في الجنوب، وكان السيّد متعباً عندما حضر رجل مسنّ لرؤيته قبل الغروب. فتوجّهت إليه وأخبرته أنّ السيّد يرتاح الآن، وطلبت منه أن يحضر غداً إلى الأمانة العامّة؛ ليتحدّث إليه عند الساعة التاسعة صباحاً. في اليوم التالي، التقى السيّد بعدد من الناس، وعندما حان دور ذلك المسنّ كان وقت الصلاة قد حلّ، فطلبت منه المغادرة. وعندما علم السيّد بالأمر، أنّبني وقال لي: "لماذا طلبت منه الرحيل؟ لا يحقّ أن نكبّده عناء القدوم إلى هنا مرّتين! لماذا لم تخبرني أنّه أراد رؤيتي يوم أمس؟".
2- ستشكونا الهرّة: كنّا عائدين من البقاع يوماً في صباح باكر، فأطلق الشابّ الذي يقود سيّارة السيّد عبّاس بوق السيّارة وأدّى ذلك إلى إصابة هرّة كانت تأكل شيئاً على جانب الطريق بالذعر الشديد فهربت، وإذ بالسيّد عبّاس يلاحظ ما حصل. وعندما وصلنا، طلب منّي أن أنادي الشابّ، وعندما حضر، قال له السيّد: "هل تريد أن تُدخلني إلى النار؟!" فقال الشابّ: "لماذا؟ ما الذي فعلتُه يا سيّد؟!" فأجابه: "إذا سألتك الهرّة يوم القيامة لماذا أطلقت ذلك البوق وأصبتني بالذعر وأنا آكل، ماذا ستقول لها؟! كنت مع السيّد عبّاس؟!".
3- ماذا على السطح: طلب منّي السيّد يوماً أن أرافقه إلى سطح البيت، من دون سلاح، وكان قد خلع عمامته وبقي بالعباءة (الدشداشة) البيضاء. وعندما صعدنا، تفاجأت بابنه كميل الذي كان قد صنع خيمة من بعض أكياس النايلون، لا يتجاوز طولها المتر الواحد، فزحف السيّد نحو الخيمة وجلس تحتها، وراح يلاعب ابنه ويتحدّث بلهجة العرب ويقول: "أين القهوة؟ أين الشاي؟"!
لم تمنعه مسؤوليّاته من أن يجالس ابنه ويعزّز له ثقته بنفسه، خصوصاً أنّه كان لا يرى أولاده كثيراً لكثرة انشغالاته، فكان يستغلّ لحظات كهذه؛ لتعويضهم ولو قليلاً!
4- المحطّة محطّتكم: ذات يوم تعرّضت مجموعة من المرافقين لحادث على طريق الكحّالة، حيث انقلبت سيّارتهم رباعيّة الدفع، وسبّبت كسر 4 أو 5 أشجار زيتون على الطريق، والحمد لله، الشباب لم يصبهم أيّ مكروه. عندما علم السيّد بالحادثة، طلب منّي الذهاب إلى ذلك المكان لمعاينة الأضرار، من أجل تعويض صاحبها. وبالفعل، أحضرنا عدد الأشجار المطلوب وسلّمناها إلى صاحبها. كان مسيحيّاً ويملك محطّة بنزين. عندما وصلت، أخبرته أنّني أحضرت له أشجاراً بدل تلك التي كُسرت في الحادث. فقال لي: "أنتم شباب حزب الله؟" قلت: "نعم". قال: "والسيّد عبّاس مسؤولكم؟"، قلت: "نعم". فهزّ رأسه متأثّراً، ثمّ قال: "بلّغ سلامي إلى السيّد عبّاس، وقل له إنّ هذه المحطّة محطّتكم"!
5- أنا أنظّف البرّاد: تنقل السيّدة منيرة الموسويّ أخت السيّد عبّاس: حين كنّا في النجف، كان علينا الالتحاق بدرسنا إلّا أنّنا أنا والشهيدة أمّ ياسر انشغلنا بتنظيف الثلّاجة، وما إن لاحظ السيّد ذلك، حتى قال: "ماذا تفعلان؟ ألن تذهبا إلى الدرس؟!". وبحسم أردف: "اتركا هذا العمل بسرعة والتحقا بالصفّ، وأنا سأكمل تنظيف الثلّاجة"!
وبالفعل، عندما رجعنا إلى البيت، وجدنا السيّد قد نظّفه، وقال للشهيدة سهام كي يحثّها على حضور الدرس دائماً: "أنا لم أتزوّجك لكي تنظّفي البرّاد والبيت فقط"!
6- خير الرازقين: تسرد السيّدة منيرة الموسويّ عن أحد أيّام شهر رمضان المبارك في النجف: طلبنا منه إحضار بعض الحاجات لتحضير الإفطار. عندما عاد، كان فارغ اليدين، فأجلسني وزوجته أمّ ياسر، وراح يحدّثنا عن أهل البيت عليهم السلام وصبرهم، والأيّام الثلاثة التي صاموها وتصدّقوا بطعامها على الفقراء، إلى أن اقترب موعد أذان المغرب، فأخبرناه أنّه يجب أن نحضّر الإفطار، والوقت يداهمنا. فقال: "ألا تملكان الصبر؟ كنت أحدّثكما للتو عن صبر أهل البيت عليهم السلام !". وبعد إصرارنا اضطرّ لأن يخبرنا أنّه التقى بأحد المحتاجين، فأعطاه الدينار الوحيد الذي كان بحوزته، وقال: "اصبرا قليلاً. الله هو أكرم الأكرمين". وما إن حلّ الأذان حتّى سمعنا طرقاً على باب النساء، كان السيّد إبراهيم أمين السيّد الذي كان يقطن بجوارنا، قد وضع صينيّة طعام عند الباب، أخذت الصينيّة بعد ذهابه. ثمّ سمعنا طرقاً على باب الرجال، وإذ بصينيّة طعام أخرى! فقال عندها السيّد: "أتى الطعام إليكما دون أن تتكبّدا عناء تحضيره"!
7- كيف سنقابل ربّنا؟ تقول أخته أيضاً عن ذكريات لبنان: ذهبت لزيارتهم في أحد الأيّام، فوجدته يرتدي مريول المطبخ، فسألته: "ما الذي تفعله؟" فقال: "ذهبت أمّ ياسر إلى سوريا في مقابلة، لذلك فإنّي أحضّر الطعام للأولاد"، فقلت له: "بتصرّفاتك هذه تجعل أيّ شخص يحبّك"، فقال: "يجب أن يكون هناك تعاون بين الرجل والمرأة، وإلّا كيف سنقابل ربّنا يوم القيامة؟!".
* ذو العمّة البيضاء
1- عشق الإمام قدس سره: تقول حوراء حرب، ابنة الشيخ: كان كلّما يأتي من إيران، يحكي لنا تفاصيل لقائه بالإمام الخمينيّ قدس سره. ونحن كنّا نحبّ التعرّف أكثر على الإمام فنغوص أكثر في تفاصيله ونسأله عنه: "ماذا كان يرتدي؟ أين كان يجلس؟ ماذا قال لك؟" فكان يقول: "قال لي الإمام: سلّم على حوراء". وأنا طبعاً كنت أفرح كثيراً، وهذا يعني أنّ الإمام الخمينيّ قدس سره كان يعرفني! وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية إخوتي، فعندما كانوا يسألون والدي عن الإمام قدس سره، كان يرسل لهم سلامه إليهم فرداً فرداً، وهذا كان يفرحنا كثيراً. ونتيجة ذلك، كنّا نُحدث حالة فوضى عارمة في المنزل وكأنّنا في احتفال. وكان والدي يتعمّد إحضار الهدايا والألعاب لنا من إيران، ليخبرنا أنّها من بلاد الإمام الخمينيّ قدس سره. وهذا ما زرع في قلوبنا عشق الإمام قدس سره وعشق الجمهورية الإسلاميّة أيضاً.
2- رضى الله: تنقل السيّدة صباح المشرفة على أطفال مبرّة السيّدة زينب عليها السلام عن اهتمام الشيخ بالأيتام بشكل كبير: ذات يوم، كان أحد أولاد المبرّة نائماً وخدّاه متورّدين، فقال لي الشيخ راغب: "انظري إلى خدّيه المتورّدين، فهذا يدلّ كم هو مطمئن ومرتاح ومسرور، وهو أنس لي لأنّ فيه رضى الله عزّ وجلّ".
3- طاولة الشيخ راغب: يقول الشيخ جعارة: كنت حينها في مدرسة سميح دخيل الرسميّة في النبطيّة، وكنت فتى مشاغباً في ذلك الوقت، وقتها لم يكن الأساتذة يجرؤون على معاقبة أيّ تلميذ بسبب ظروف الاحتلال. كنت أسمع عنه فقط، لكن انقلب صباحي عندما كان عمري 15 سنة، حيث حضر إليّ المدير، وأمسك بأذني، وقال لي: "لن أفعل لك شيئاً، ولكن اسمع جيّداً ما سأقوله لك: هل تعرف من كان يجلس على هذه الطاولة؟ الشيخ راغب حرب"! في هذه اللحظة، شعرتُ وكأنّ سيفاً ضربني أو سوطاً جلدني! فأنا المشاغب أجلس على طاولة ذلك المقدّس الذي استشهد! أخذت حينها "البيكار"، وحفرت صورة الشيخ راغب حرب على الطاولة مع عمامة ولحية. صرت كلّما أحضر إلى المدرسة، أنظر إلى الصورة، فتردعني عن القيام بأيّ مشاغبات. لقد كان ذلك اليوم نقطة التحوّل في حياتي، وكنت أنتظر بفارغ الصبر أن أنهي المرحلة المتوسّطة لأرتاد من بعدها الحوزة، واضعاً نصب عينيّ أن أكون في يوم من الأيّام كالشيخ حرب، أو مُكمّلاً لحركته. وفّقني الله وبدأت بطلب العلم، وكنت أشاهد أشرطة فيديو عنه، وكذلك أسأل الإخوان في المسجد عن شخصيّته، وحركته، ونشاطاته، وزياراته. لقد جذبتني شخصيّته وغيّرت حياتي.
ووفقاً للقاعدة التي وضعها الشيخ راغب أنّ "دم الشهيد إذا سقط، فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله، فإنّه ينمو"، فإنّ الدماء التي سقطت من شيخ الشهداء، نمت منها أمّة، وأنا واحدٌ من الذين نموا من دماء شيخ الشهداء!