سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين
﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل: 32).
لقد فاجأنا الموت -كعادته- فخطف منّا أخاً عزيزاً، وصديقاً وفيّاً، وعالماً مبلّغاً، فأصابنا بفقدانٍ كبير وخلّف فينا حزناً وأسىً. ونحن الذين اعتدنا على طيّ الأحزان وتكبّد مراراتها بالإيمان الذي يهدّئ من روعنا، وبتسليمنا بقضاء الله تعالى، ممّا جنّبنا الاعتراض على المشيئة، ونحن نعرف أنّ الموت لا يُدفع إذا حلّ أوانُه، ولا يُرفع إذا ألقى جرانه، فلا محيص من الاعتبار، وهو ضالّة المؤمن وسبيل الاتّعاظ والتهيّؤ لمصيرٍ كلّنا لاقيه؛ إذ كلّ نفس ذائقةُ الموت، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
في ذكرى رحيل الحبيب سماحة الشيخ فضل مخدّر، الذي وفّقه الله تعالى لطلب العلم ونيله، الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله به طريقاً إلى الجنّة"(1). وهو الذي حباه الله تعالى بفضائل وخصال يجمعها العلم والأدب والتهذيب وحُسن الخُلق والشعر. وقد سُكبت هذه الصفات في قلبٍ طيّب وطاهر، أجرى على لسانه الصدق حين النطق، والوفاء حين الأداء، فأنجز وظائفه الشرعيّة والدينيّة بأمانةٍ وإخلاص ونقاء، وتزيّنت نفسه المطمئنّة بذائقة الشعر والأدب الرفيع حتّى غدا منبراً متنقّلاً يحمل رسالته وقيمه ومقاومته شعاراً يختصر هويّته، ففتح أقفال قلوب وعقول أُغلقت في وجه غيره، وبلّغ على طريقته بتطويع الحرف والقافية في نظمٍ بديع ينفذ بروحه الهائمة وأحاسيسه الناضحة بالصدق والمحبّة والتلاقي إلى آفاق وعلاقات وروابط نسجت خيوط القُرب من الآخر دون تكلّف أو تملّق؛ فأنشأ مساحات جهاده الفسيحة بالكلمة والبيان والإفصاح، ليؤدّي دوره المقاوم المستمدّ من عقيدته وفكره وانتمائه الفاخر.
يا شيخ الكلمة والفكر! لا تختصرك كلمة ولا يحاكيك خطابٌ مهما سما، فأنت كما نعرفك أعمق من معانٍ قاصرة، وجوهرك أبلغ من بلاغة موقف، وحنانك الدافع لا تسعه العبارات مهما تنمّقت، وما دفنته في قعر محبّتك لا تخرجه الأوصاف، بينما النظر في أعين محبّيك ومن افتقدوك يكشف ذهولاً أفصح وأجمل وأزكى وأنفع في عوالم السرّ.
من كانت سريرته الأنقى في حضوره، ومن كانت سليقته الأرحب في حياته، ومن كانت المسامحة والبسمة والخجل الأسبق في علاقاته، فإنّه لا يُجمع بفهم، ولا يعرف بوهم، ولا يعطيه حقّه الكلام.
إنّ عزاءنا اليوم هو في سيرتك الحميدة وذكرياتك الجميلة، وفي نموذجك مثالاً حيّاً وبُعداً إضافيّاً من أبعاد الفكر الأصيل الذي تنتمي إليه مقاومتنا ذاتُ الجذور الراسخة إيماناً وعلماً، والسامقةُ ارتفاعاً وعلوّاً، وأنت إحدى ثمارها الطيّبة والفوّاحة بعطر الولاية، حيث النبع الفيّاض الذي تنبجس منه عيون، وكان لك أن تغترف منها بكأسٍ أوفى من عيون العلم والأدب والجهاد.
إنّ مواساتنا اليوم باستقامتك؛ فلم تحد، وبثباتك فلم تزلّ، وبحسن اختيارك فلم تعدل. آمنت بالمقاومة نهجاً وحياةً، فأعطيتها كلّ عمرك وعلمك ومواهبك، ونذرت لها وجودك وشعرك وأدبك. وجدت فيها عظيم أمانيك، وواكبت صمودها وصعودها وانتصاراتها، فهي عندك الحجّة القائمة والدليل الهادي والبرهان الساطع، حيث سطعت أنوارها بالعلم والقيم والأخلاق والصبر والبصيرة، وهي معشوقك.
نُؤبّنُك اليوم رسولاً للمقاومة. كنت بلسان الصدق وعذوبة البيان حاملاً مشعلاً لا يُطفَأ، وسلاماً لا يُجبه، معتمداً على إرادةٍ لا تُهزم وعلى دافعٍ لا يذوي ولا يتعب، متّكئاً على همّةٍ طافت بك البلدان، حملتك من أقصى الجنوب رئيساً لمنتدى جبل عامل للفكر والأدب إلى أقاصي الهرمل، حيث الشعر جدولاً كالعاصي، وما بينهما محرّكاً ومستفزّاً للمواهب الأدبيّة عساها تفصح عن مكنونها فلا توأَد في كتبها، دائباً على إحياء المؤتمرات والأمسيات، ناشراً فيض إبداعك، معتقداً أنّ النفوس إلى يباس ما لم تلفحها نسائم المعاني فتلطُف.
وعِمّتُك التي أعطت رونقاً خاصّاً لأدبك اقتحمتَ بها مواقع الإنتاج والتفاعل الأدبيّ، فكان حضورك الفاعل والمؤثّر في اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين. ولأنّك كنت مؤمناً جدّاً بالحريّة، ولأنّك كنت حرّاً متصالحاً مع نفسك، اعتبرت أنّ الشاعر الحرّ يجب أن يبقى سلطاناً في مملكته الإبداعيّة، وليس مملوكاً عند سلاطين المال والجور.
شيخنا العزيز! نودّعك والشوق إليك يزداد ويلحّ في ساعة الرحيل. ستحفر فينا دائماً عند كلّ قصيدة أو رواية حفرت فيها بعضاً من ذاتك.
نودّعك وقلوبنا مطمئنّة. إنّنا نودّعك جزاء إخلاصك وحبّك، وما قدّمت لغدك في جوار إخوانك وأحبّائك من الشهداء، الذين مضَوا ومضيت خلفهم كلمةً طيّبةً تؤتي ثمارها كلّ حين بإذن ربّها.
(*) كلمة السيّد هاشم صفي الدين في حفل تأبين سماحة الشيخ فضل مخدر رحمه الله.
(1) الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 34.