اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

وصايا الإمام إلى السالكين

السيد عباس نور الدين

سير في وصية الإمام لابنه السيد أحمد : الوصول إلى الكمال


"فالكمال المطلق هو الحق جلّ وعلا، والجميع يبحثون عنه، وإليه تهفو قلوبهم وإن كانوا لا يعلمون، فهم محجوبون بحجب الظلمة والنور".
من المسائل الفكرية العظيمة التي يبينها الإسلام، وقد تحدث العرفاء عنها كثيراً والتي يعد إدراكها بشكل صحيح عاملاً قوياً في تغيير حياة الإنسان، فكرة الكمال المطلق.


وعندما تطرح فكرة المطلق، فإنه يشعر بأن شيئاً ما يتحدى قدراته الفكرية والذهنية، ولهذا يرفض البحث حوله، كما أنه يرفض النتائج التي توصل إليه.
هذا هو واقع الأكثرية الساحقة من الناس. ورغم أن الله سبحانه يتصف بالصفات الإطلاقية التي تعني الكمال اللامحدود، ورغم أنهم أمروا بمعرفته سبحانه، فمع ذلك نجدهم يعرضون عن هذه المعرفة التي هي سر وجودهم في هذا العالم وغاية حياتهم فيه، قال الله تعالى:
 ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ .
فهو سبحانه يبين لنا أن معرفته بصفاته الإطلاقية سبب خلق السموات والأرضين وتدبير الأمر بينهن وإرسال المرسلين. وفي حديث الإمام الحسين (عليه السلام) حينما سأله سائل لماذا خلق الله الخلق؟ قال عليه السلام: إن الله خلق خلقه ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه.
وهناك مئات النصوص الشريفة والبراهين المؤيدة لهذا المطلب الشريف.وقد وقع البعض في الخلط ما بين المعرفة الحقيقية والمعرفة الخيالية. وتوهموا أن معرفة الله غير ممكنة لأنه سبحانه لا يمكن أن يُتصور بالخيال. فهذا منتهى علمهم، وهم لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا من المحسوسات التي تنتظم عندهم في قوالب الخياليات، وقد حصروا المعرفة بما وصلوا إليه.

إلا أن أصل البحث يرجع إلى هذه النقطة بالذات. فمعرفة الله تعالى أصل كل حقيقة ومبدأ كل معرفة. وما لم يعرف المرء ربه كما وصف نفسه لم يعرف شيئاً وإن توهم المعرفة.
والدين الحنيف والبرهان الشريف والوجدان اللطيف، كلٌّ يهي إلى وجود مجالات أوسع وقنوات أرفع للإدراك البشري. وإن الإنسان يمتلك قلباً يمكنه أن يدرك به الحقائق والمعارف الإطلاقية. وقد ورد في الحديث القدسي المشهور: "لم تسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن". قال الله تعالى:  ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى  * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى﴾. وفي حديث أمير المؤمنين عليه السلام: "ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله وبعده". وأيضاً قوله (عليه السلام): "لم أعبد رباً لم أره".

ولكن المشكلة عند معظم الناس تعود إلى أنهم قد فقدوا هذه القناة الإدراكية العظيمة التي هي وسيلتهم إلى المعارف الإطلاقية والحقائق التي تخرج عن المحدودية، وقد عطلوا هذه النعمة الكبرى وبراق العروج. قال الله تعالى:  ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾. أو أنهم جعلوا الحجب الظلمانية أو النورانية على قلوبهم. ولم يعد بإمكانهم أن يفقهوا من هذا الحديث شيئاً.

إن صاحب القلب الصافي والروح الثائرة التائقة إلى الخروج والتحرر من قفص الطبيعة وسجن الدنيا هي التي تكون مستعدة لقبول الحقائق التي تفوق حدود العالم الحسي، وتدعو الإنسان إلى بناء منظومة فكرية جديدة، وإلى تغيير هذا اللباس الفكري البالي.
وأعود لأذكر الأخوة القرّاء بهذه النقطة وهي أنما يطرحه الإسلام حول الحقيقة ليس من سنخ الحقائق الطبيعة والمعارف العقلية والأمور الاعتبارية. إن الحقيقة الكبرى في الإسلام هي التي تتعدى طور هذه المعارف. ولهذا قال إمامنا الراحل في نفس الوصية: "فالإيمان بأمثال هذه الحقائق لا يحرز إلا بالمجاهدة والتفكر والتلقين" ومن المبكر أن تعتقد أيها العزيز أنك قد أحطت بهذه المعرفة التي يجري الحديث عنها. ولكن أن تعرف أن هذه حقيقة بعد الاستدلال عليها، وأن تكون مستعداً ومقبلاً عليها (ولو لم تتصورها) فإن هذا بحد ذاته سيكون طريقاً لك لكي تكتشف الحقائق العظيمة في الإسلام. ونحن إذا قلنا أن معارف الدين الإسلام ليست من سنخ المعارف المعهودة عند البشر، فذلك لأن مبدأ كل معرفة، بل المعرفة الجوهرية في الإسلام هي تلك المتعلقة بوجود الله سبحانه وصفاته.

وتفكر أيها القارئ في صفات الله تعالى، واسأل نفسك هذا السؤال: لماذا أمرنا بمعرفة الله، وكيف الوصول إلى ذلك؟ فإن هذا التفكر يوقظ فيك الجانب الغائب من وجودك. وإذا حصلت على الإجابة الصحيحة بهداية الرحمن، فإن منظومتك الفكرية التي تركبت على أساس المحدودية والزمان والمكان والاعتبار ستنهدم بالكامل لتحل محلها منظومة أخرى تشرق على كل كيانك بنور يضيء لك الطريق.
أنت تقول: أنا لا أقدر على تصور المطلق. ونحن نقول: إذا كنت قد وصلت إليه بالدليل وا لبرهان وعرفت أن الله تعالى قد جبل فطرتك على حبه والسعي إليه فهل تظنن أن المسألة تحل بهذه البساطة؟! أن الخيال لا يدرك إلا المحدود، كما أن العقل لا يقدر إلا على الإشارة إلى المطلق من بعيد. وإن تصوره الحقيقي هو شأن القلب الصافي. أن الكثير من الحقائق المطروحة في الإسلام يجب الإيمان بها رغم أن إمكانية تصورها تبدو معدومة. بل إن أعظم الحقائق في الوجود، وهي حقيقة وجود الله تعالى، يجب الإيمان بها والعمل على أساسها بالرغم من أن التصور الخيالي أمر مستحيل بحق صفات الله وأسمائه.

يقول الإمام قدس سره:
"ولهذا فهم يتوهمون أنهم يطلبون شيئاً آخر غير الكمال المطلق. وهم لا يقنعون بتحقيق أية مرتبة من الكمال، ولا بالحصول على أي جمال أو قدرة أو مكانة. فهم يشعرون أنهم لا يجدون في كل ذلك ضالتهم المنشودة. فالمقتدرون وأصحاب القوى العظمى هم في سعي دائم للحصول على القدرة الأعلى مهما بلغوا من القدرة، وطلاب العلم يطلبون الدرجة الأعلى منه مهما بلغوا فيه، ولا يجدون ضالتهم التي غفلوا عنها في ذلك".
وبعد أن ثبت لدينا وجود الكمال المطلق ووجوب السعي إليه يفسّر الإمام كل تحركات ومساعي البشر وفقه. فهو يقول إن أي إنسان يستحيل أن يطلب شيئاً آخر غير الكمال المطلق. وهو عندما يسعى الكمال المطلق. وهو عندما يسعى للحصول على أي كمال أو جمال فذلك بسبب هذا الدافع الأصيل في فطرته. والدليل عليه أنه مهما وصل من درجات الكمال كالقدرة والعلم يظل طالباً للمزيد. ولكنه بسبب احتجاجه عن الحقيقة يظن أن الاستكثار من الكمال يوصل إلى ذلك الكمال المطلوب من أعماقه. فهو يتصور أن جمع المحدود يوصل إلى اللامحدود. قال الله تعالى: {ألهاكم التكاثر}. وقد ثبت في علم الرياضيات أن جمع المحدود لا يعطي إلا المحدود. وهو أمر وجداني أيضاً. ولهذا ذكرنا منذ قليل أن المطلق ليس من سنخ المحدود، ولا يشبهه في شيء. وكل من يحاول أن يتعرف إلى المطلق الموجود من خلال المحدود لن يصل إلى شيء: "إلهي ألغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك".

كل البشر ينطلقون من خلال هذا الدافع الفطري. الذي يستحيل أن ينفصل عنهم. لتحصيل الكمال. وإن عدم رضاهم بأي كمال مهما كان يدل على وجود هذا الدافع في أصل خلقتهم. إلا أن المشكلة تكمن في عدم اعترافهم بذلك ـ إلا القليل منهم ـ وعدم إذعانهم لهذه الفطرة الإلهية الصافية.
كما أن الاشتباه الناشئ من سوء السريرة في تحديد الكمال المطلوب يجعل الإنسان يتوجه نحو جمع الكمالات ظناً منه أنه بهذه الطريقة سيشبع هذه الرغبة الموجودة في أعماقه والتي يستحيل أن تنطفئ شعلتها المتوقدة أبداً.
ففي أعماقنا حب للجمال، ولأننا لا نعرفه ولا نعترف به، نظن أن ما نريده هو جمال النساء فنسعى نحو النساء وجمعهن والاتصال بهن بأي شكل. وتكون النتيجة المزيد من الحسرة والأسى بالإضافة إلى الآلام التي لا تنتهي إلا بالوفاة.
وكذلك نحن نعشق القدرة المطلقة. ونظن أن القدرة في المال. فنسعى لجمع المال. وأحياناً نجمعه بأية طريقة ممكنة مما يوصلنا إلى ارتكاب المحرمات. وتكون النتيجة أيضاً الندم والألم والهم الذي لا يعدم.

وإن هذا السعي الخاطئ لا يزيد الإنسان إلا قلقاً واضطراباً لأن قلبه قد تعلق بشيء تكون طبيعته الزوال أو قابلية الانعدام. فالمال وشهوة النساء والمناصب وكل اللذات الأخرى، وإن كانت تمثل للإنسان نوعاً من الكمال، إلا أنها جميعاً زائلة أو مؤذنة دوماً بالزوال. وهذا ما يجعل الإنسان في خوف أو حزن دائمين بسبب هذا التعلق. خوفاً من زوالهما أو حزناً على زوالها. "ومن تعلق قلبه بالدنيا التاط قلبه بغم لا يزول" (الحديث).

يقول الإمام قدس سره:
"ولو أعطي الساعون إلى القدرة والسلطة التصرف في كل العالم المادي من الأرضين والمنظومات الشمسية والمجرات، وكل ما فوقها، ثم قيل لهم: إن هناك قدرة فوق هذه القدرة التي تملكونها، وهناك عالم أو عوالم أخرى أبعد من هذا العالم، فهل تريدون الوصول إليها؟ فإنهم من المستحيل أن لا يتمنوا ذلك. بل إنهم سيقولون بلسان الفطرة "يا ليتنا بلغنا ذلك أيضاً!". وهكذا طالب العلم. فهو إن ظن أن هناك مرتبة أخرى غير ما بلغه، فإن فطرته الباحثة عن المطلق ستقول: يا ليت لي القدرة للوصول إليه، أو يا ليت لي سعة من العلم تشمل تلك المرتبة أيضاً".

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع