مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

سُبحة الجراح: لقاء مع الجريح المجاهد أحمد ملك التالا


حنان الموسويّ


كنتُ أرقبُ مجموعة المجاهدين خلفي، والدهشة ترتع في حقولٍ من مجاز المعنى. رأيتُ ظلال الحاملين بلادهم على أكتاف نخوتهم، قبل أن يغشى عينيّ بياضٌ زادت حيرتي بسببه، فخلتني فقدتُ بصري. انجلى الغبار ليكشف عن تشريكة ألغام انفجرت. تحسّستُ جسدي: عينيّ، وجهي، يدَيّ، بطني، ورأيتُ قدمي اليمنى وحيدة تنزف، والأخرى تلاشت دون أثر!

مشيجُ الإرهاب من داعش وجبهة النصرة كان قد انحسر، واحتشد في جرود سلسلة الجبال الشرقيّة للبنان. وما بين عرسال والقلمون كنّا العابرين إلى أقصى الأفق، تعانَق ظلُّ الله وأرواحنا. لا بدَّ من تحرير ما تبقّى من أراضٍ بسط التكفيريّون شرّهم عليها. تقرّر الهجوم وبدأت المعركة.

•براعم الجهاد
ترعرعتُ في كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ فقد نما حبّها والعمر معاً في قلبي، منذ كنت برعماً عام 1998م حتّى تدرّجتُ قائداً، وانضممتُ بعدها إلى صفوف التعبئة، إلى أن صرتُ من المجاهدين الرسميّين. خضعتُ لدورات ثقافيّة وتدريبيّة وعسكريّة، ونشأت في هذا الخطّ حتّى صرتُ مقاتلاً قويّاً. تلك الدورات العسكريّة كانت عالية المستوى، أهّلتني لتدريب الإخوان المجاهدين في أكثر من مكان وساحة. تابعتُ التدريب مدّة زمنيّة لا تقلّ عن الأربع سنوات. منَّ الله علينا أن نربّي أجيالاً وندرّبها، وهذا بمثابة صدقة جارية، إلى أن بدأت الحرب في سوريا. شاركتُ في المعارك منذ بداية الأحداث. وفي أواخر 2011م، وفّقني الله لأكون من حرّاس مقام السيّدة زينب عليها السلام، وقد لبّيتُ النداء.

• كسُبحة
في العتيبة كانت الإصابة الأولى عام 2012م، أثناء هجوم خضناه. كُسر حوضي حينها جرّاء انفجار صاروخٍ أطلقه التكفيريّون علينا، وانتشرت الشظايا في قدمي اليسرى. وفّقني الله واستعدتُ القوّة، ثمّ عدتُ إلى عملي، وأكملت المسيرة مع وسام شرفٍ.

كسُبحة الجدّات الطاهرات انفرط عِقد النور، وتتالت الإصابات، ففي العام 2015م نلت الوسام الثاني على حدود السلسلة الشرقيّة. هناك كانت الإصابة الثانية أثناء هجوم قمنا به، حيث تركّز انتشار الشظايا في يدي وبعض أعضاء جسدي، وكانت إصابتي كغيمة عابرة، والحمد لله أنّه وفّقنا لنقدّم قرباناً كرمى لرضاه.

معركة تحرير الجرود عام 2017م، "فجر الجرود"، كان لها حساب آخر. في الثالث عشر من شهر تمّوز، كنت ضمن المجاهدين الذين كُلِّفوا بالالتحاق بالجبهات. كنّا جاهزين وفي حالة تموضع بانتظار الهجوم. عملُنا كان في منطقة وسطيّة عند الحدود بين لبنان وسوريا، وكان تكليفنا أن نقوم بهجوم؛ لنحرّر المعابر ونفتح الطريق أمام باقي المجموعات.

هناك كان الوسام الثالث، فيض الله شملني وكانت الإصابة أبلغ، هذه المرّة بُترت قدمي اليسرى، واسيتُ الإمام الحسين عليه السلام وأبا الفضل العبّاس عليه السلام بجرحٍ زهيدٍ.

•جرحٌ وكرامة
نُقِلتُ ورفاقي الجرحى في الإسعاف إلى المشفى الميدانيّ، ثمّ إلى مشفى دار الحكمة في بعلبك، ومنها إلى مشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيروت. طالت المسافة، وعلى ثغري في كلِّ الأماكن أسئلة حيرى عن رفاقي. ظلّ فكري عاملاً بذكرهم، فمرثيّة النار وطلقاتها، زئير الحرب وصولاتها التي تَقَلَّب أُنسنا فيها، طَربنا بها جميعاً وما هبنا الموت ولا الدم، وعانقنا الأخطار، وكان الهاجس الأكبر رضى المولى.

تراءت لي صور رفاقي الشهداء الذين لم ينبذوا وطنهم منذ امتزجوا به، حتّى ظننتُ أنّي سأرافقهم إلى الملكوت، لكنّ مشيئة الله جرت بغير ذلك. أرّقني سرٌّ مريب لم أدرك صدقه من عدمه، صورة صديقي المجاهد ميثم عليّ الرضا عبيد، كانت من بين الصور مشرقة بغنج، بعد مدّة من إصابتي علمت أنّه استشهد وزفّ إلى الجنّة أثناء نقلي إلى المشفى بعد الإصابة. حتّى الآن لم أعِ إن كان وحياً أم خيالاً، أو ربّما كرامة.

•معاناة وعزيمة
مكثتُ في مشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم مدّة شهرين، بين جراحةٍ وعلاج ومعاناة بسبب بتر قدمي اليسرى، والضرر العميق الذي طال القدم اليمنى، التي كان سينالها البتر أيضاً، ولكن بفضل الله والطاقم الطبّيّ والأطبّاء تجاوزنا الخطر، واستمرّت مرحلة علاجها من ضعف العصب الحسّيّ والحركيّ، فضلاً عن بعض الأضرار الجلديّة، كمضاعفات للأنسجة المزروعة فيها.

مؤسّسة الجرحى كانت الراعي الأوّل والمبادر الأساس، فقد قامت بخدمة الجرحى، وبفضل جهود القيّمين فيها استطعتُ أن أتخطّى الجراح.

•تباريح الجراح
في حضن الفقد تكبر لوعتي، فالشهادة أمنيّة شاخت عند ضفافها القدرة، فما عاد بالمستطاع العودة إلى سوح الجهاد والجبهات، والغوص في أمواج المساءات الحميمة في الثغور كما قبلاً، إلّا أنّ أملي بالله كبير أن يرزقنيها. لا ينتابني الندم لحظة. حتّى الآن لم أشعر أنّ أحد أطرافي مبتور، ولم أقارن نفسي بأيّ شخص طبيعيّ. بي تفاؤلٌ عظيم ارتوى من دمي، والصبر عمر مصلوب الكلام، ترويه تباريح الجراح، لا يعيه إلّا كلّ من آمن بمحمّدٍ وآله عليهم السلام وتعلّم في مدرسة كربلاء. جهوزيّتي تامّة لكلّ ما يُطلب منّي. صحيح أنّي لا أزاول العمل ولا ألتحق بالجبهات، لكنّي أُلقي بعض المحاضرات وأقوم ببعض التدريبات أحياناً. ما زلتُ أمارس هواياتي وأهمّها السباحة والصيد، لكنّ كرة القدم تعيدني من سهوي إلى أرقي بعد اعتزالها قسراً!

•دعاءٌ واستجابة
بعد خروجي من المشفى، قصدتُ زيارة مقام السيّدة زينب عليها السلام، وطلبتُ منها أن تسأل الله لي الشفاء العاجل لأمثل في خدمتها وأنال حظوة الدفاع عن مرقدها من جديد، وأن تُكتب لي زيارة الإمام الحسين عليه السلام في الأربعين. خاطبتها ببعض الصمت ودمعي حزين: "ما زلتُ يا فخر الهواشم على الرغم من مواجعي، أحيي في ذاكرة السماء غراماً، آتيك من أقصى الجروح حافياً، أثلام ظلّي تدسّ الحزن في جيب الرجوع إليك حبّاً. يا ليت يا سيّدتي أستطيع، أشكو إليك الأسى واللّوعة الوجيعة، فشتات ذاتي في حضرتكِ يلتئم".

بعد عودتي بفترة وجيزة، هاتفني صديق ليسألني عن رغبتي في السفر لزيارة العتبات المقدّسة في العراق، في ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام، وأنّه سيهديني الزيارة في حال موافقتي. توسّدت لطف السماء ولم يسعني الفرح، وقع طلبه كالبلسم في قلبي، فأضمرتُ في نفسي أمنيّةً وعقدتُ الأمل لتتحقّق، بعدها غفوت على جفن الرجاء. أمنيّتي كانت من كريمٍ ابن كريم، طلبتُ من قمر بني هاشم عليه السلام أن يوصلني إلى ضريحه بسهولة، ودلالة ذلك أنّه قَبِلَ بمواساتي له، وتقبّل جراحي وقربان الدم الذي قدّمت، فما كان من بعض خدم العتبة العباسيّة المقدّسة إلّا أن حملوا الكرسيّ المتحرّك الخاصّ بي، وقرّبوني من الضريح بعد أن عرفوا كيفيّة إصابتي، فأيقنتُ أنّ الكافل راضٍ عنّي، قابلٌ لجراحي.


الجريح: أحمد ملك التالا.

الاسم الجهادي: غريب فاطمة.

تاريخ الولادة: 1/1/1993م.

مكان الإصابة وتاريخها: القلمون 2017م.

نوع الإصابة: بتر القدم اليسرى.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع