ولاء إبراهيم حمود
في بداية الحوار ظننته المستفيد الأول من نبض القوة التي عهدناها في والده "زين شعيب". ولكن الحاج نديم بدا بعفوية إجاباته ابناً باراً لأبيه وعصامياً شق طريقه بجهده، وحُسْن تفاعله مع تراث أبيه.. غنّى المقاومة، غنّى مشاعر المقاومين حتّى الحميمة منها، رصد عودة المقاومة ظافراً بعد أن أنشد لحظة وداعه لعائلته... نديم شعيب أعطى المنبر الزجلي المعاصر هدفاً وغاية وقصب سبق وما على سواه إلاّ الجري في هذا الميدان لا للتحدي بل لصنع القرار مع من يصنعون القرار.. اتهمته بالتنكر للفصحى وبالتآمر عليها.. أقنعني بأنّه الحريص عليها والضنين بها خوفاً من عبث العابثين.. ولكنّه مجاله الذي نشأ فيه ومضماره الذي حلّق بين جنباته وهو بعد تراث جميل يعبّر عن أيام كان يُقال فيها عن لبنان في ظلال هذا اللون الشعري الرائع: هنيئاً لمن له مرقد عنزة في لبنان.. بين الميجانا والمواليا.. والعتابا.. ترك نديم كلّ هذه الجماليات ليفيء إلى الظلال الأجمل.. إلى ظلال المقاومة.
*ما هي الأبيات الأولى التي قادت عجلة مسيرتك الشعرية على دروب الزجل والشعر العامي؟
-ربما كانت مشاعري الإنسانية التي شدتني إلى أستاذي "سمعان سمعان" أولى اختلاجات القصيدة في داخلي. كنت في العاشرة من العمر وفي غمرة إحساسي بالكآبة للقرار المفاجئ بانتقاله إلى مدرسة أخرى في منتصف العام الدراسي بعد أن كنا قد أحببناه وألفناه، وفي غمرة إلحاحنا جميعاً عليه للبقاء دعاني وحدي دون سواي لترجمة هذه المشاعر شعراً: ما زال صوته يرن في أذني حتّى اللحظة وهو يقول لي:"إنت يا نديم ابن شاعر، وأنا بدّي ياهن منك بطريقة شعرية، بشي ردّة أو قصيدة". فأجبته ملبياً:
ت تسمع كلّ بلادي
"بأعلى صوت بنادي
حتّى تعطيني شهادة"
خليك عنا يا سمعان
أمّا لقائي بالناس عبر المنبر فكانت إطلالتي الأولى في الرابعة عشرة من عمري في بداية الأزمة اللبنانية وفي العام 85 في ميفدون كان لقائي الأول بالجماهير المقاومة في ذكرى شهيدين من شهداء المقاومة.
وهل استمر انتماؤك لزين شعيب في حياكة أثواب شاعريتك أم أنّك وجدت فيما بعد نولاً آخر تحوك عليه وخيوطاً أخرى تنسج بها؟
-أنا لا أنكر أبداً تأثري بوالدي، "بعنترياتو" تحية لآل البيت عليهم السلامس للجنوب، لأنّني أَلِفْتُ أجواءه، كانت "ردّاته" أناشيد طفولتي.. ولكنّني اكتشفت وربما لأنّي ابنه أنّني أمتلك بفضل من الله موهبة الشعر. فعملت على صقلها وتنميتها متأثراً بشعراء أُخر غير والدي.
لذلك رقّ شعرك عن شعر أبيك؟ ليبقى وحده "أبا علي" مكتسباً أنت من هذه الألف الفارقة بين اسميكما مشاعر تبتعد عن عنفوان "المرجلة والمراجل"؟
-إنّ الفروقات الكامنة بين عصري وعصره هي السبب، إنّ قساوة الطفولة التي عاشها والدي على مختلف مستويات الحياة أعطته وأبناء جيله هذه الصلابة التي انعكست في أشعارهم تحدياً كبيراً يواصل حدود المبالغات التي كانت تروق لسامعيها كلما تقدمت صعوداً.
كانت الحياة في زمن أبي "عُمْدة" في ساحة عرس والقبضاي من يرفعها بيدٍ واحدة. وكان هو هذه الحياة حيث كان يطيب لوالدي التحدي ناهيك ما يمتلئ به قلبه من تاريخ البطولات والفروسية في سيرة أمير المؤمنين ولأنّ الحصان كان وسيلة النقل المتوفرة في ذلك الزمان فقد استعار والدي مرّة صورته الثائرة وأسقط عليه مرتكزات فخره:
علم، مشبوب بصخر الصم
مهري "حصاني" بالهيجا لو همْ
وصار الغيم يشتي دم
ومن هالغير اتحول غيم
وتأثري بوالدي أمرٌ لا ينفي أبداً اختلافي عنه أو اختلافه عني تبعاً لاختلاف الظروف والبيئة ولاختلاف القضايا التي عايشها كلّ منا فعبّر عنها.
*متى بدأ الزجل في لبنان؟ وهل هناك تمايز بينه وبين الشعر الشعبي؟
-الزجل أحد فنون الشعر الشعبي الذي يعتبر هو الآخر أحد فنون الأدب الشعبي، للزجل لونه الخاص وأصله وقواعده وجلساته، والبداية في لبنان غير واضحة تماماً، فالروايات تختلف بين قائل يعيد بداياته إلى مئات السنين وآخر يضعه على رأس هذا القرن – لوالدي إضافة في هذا المجال تقول إنّ ردّة المعنّى، كانت من بيتين وقد تطورت منذ أربعين أو خمسين سنة لتصل إلى ستّة ابيات أو سبعة أعطيك مثالاً محاورة جرت بين والدي وخليل روكز يقول فيها والدي:
ساكت أنا ومسلّح بصبري الجميل
غنوا الشباب وبيّنوا كتير وقليل
إن كنت قد الحمل شرّف يا خليل
وما ضل بالميدان إلاّ بو علي
فيرد عليه خليل:
ردّ العزيمة وقد ما فيك اعتلي
يا بو علي لو جيت تعزمني إلي
ع شرط بدنا يّاك تبقى بو علي.
من جهتي قبلت العزيمة وجيت ليْك
وكانت الردة الأخيرة تؤسّس لارتجال ردّات أخرى على نفس الوزن والقافية. أمّا الشعر الشعبي فهو قديم جاء وقد تطور في أيام خليل روكز وموسى زغيب ووالدي ولا ننسى فضل الرعيل الأول علي الحاج القماطي وشحرور الوادي وأنيس روحانا، الذين نقلوا الشعر الشعبي ومنه الزجل من السهرة البيتية العادية إلى المنبر الذي يجمع حوله من جميع المناطق أكبر قدر ممكن من الناس.
*يعتبر السيد القدسي في الشعر الفصيح أنّ الارتجال "أوسع باب للإسفاف" ويراه الشيخ عباس فتوني ممكناً بعد مراس وخبرة، ماذا يقول نديم شعيب في قيمة الارتجال في الشعر العامي الأقرب إلى النفس، والأكثر بساطة..؟
-أفضل كشاعر أن أقدّم لمستمعي قصيدة تحافظ على سلامة الوزن والقافية في وقت لا تفتقد فيه إلى الكثير من عناصر المحاكاة وعمق الصورة. لا أهدف أبداً إلى إقناع الآخرين أنّني "قبضاي ارتجالي" ولكن هذا لا يمنعني إن جمعتني الصدف في حفلة عرس أو مناسبة بشاعر آخر أن أخوض سجالاً مرتجلاً، يفوق رغم بساطته لحسن رصده لواقع الحال القصيدة المحضرة.
*كيف ترتجل الردّة، على أي هيكلية شعرية تقوم القصيدة الزجلية؟
-في الواقع لم ينظر أحد على حد علمي لهيكلية القصيدة الزجلية، ثمّة ألوان توارثتها الأجيال وحفظتها الذاكرة، لم يُعنض بوضع أوزان علمية للزجل أو ما يسمى ببحور الشعر الزجلي كما في الفصحى، لدينا لون الموشّح الذي يدلّ دلالة كبرى على تأثر الزجل اللبناني بالموشح الأندلسي وهذا ما تؤكده دراسة قام بها أحد "الخوارنة" استناداً على مخطوطات قديمة وجدت تؤكد التأثير الأندلسي في الزجل اللبناني، ولكن قبل تطور هذا الزجل لشكله الحالي، والموشح لون رقيق يستعمل لنقل مشاعر الغزل والحب وفيما يخصّني فقد استعملته في معرض الغزل.. للمقاومة والحب لشهدائها وهاكِ مثالاً:
عالجبهة بتلاقيني خلف المتراس
لو حبيتي تشوفيني يا أغلى الناس
كل ما عم يزرع جسمو مقاوم بالدرب
يا مقاومتي بينحسموا أيام الحرب
وبقلي حافر رسمو السيد عباس
بعيوني طابع اسمو الراغب بالحرب
بيادر عزك ملياني من أغلى حبوب
يا بقاع الغربي الباني للمجد دروب
كل الشعب اللبنان مرفوع الراس
وبالأبطال الخلقاني بأرضك يا جنوب
هناك أيضاً لون المعنى، ولون القرادي الذي بنيت عليه هذه الردة
تجلت قوتنا بلبنان بوحدتنا الوطنية
بهجمات الصهيونية
يا بلادي بعد العدوان
أستطيع الآن أن أرتجل ما يناسب هذا الوزن وهذه القافية ولكنّه لن يكون بأيّ حال بعمق قصائدي المحضّرة والمعدّة بتأنٍ وعناية.
يصمت قليلاً لتلاحق نظراته بيت شعر متمرد أو ردّة مشاكسة سرعان ما يلقي عليها القبض ويضغط زر التسجيل ليقول:
حتى تسيل بحور الدم
منبقى هون وما منهتم
بتشرق شمس الحرية
عطور الأزهار بتلثم
رح نبقى ع ذات الدرب
مهما فينا يطول الحرب
للدولة الإسلامية
لا للشرق ولا للغرب
لاحظي أنّ هذه الأبيات الولدية تمتلك شكل الزجل دون عمق المضمون، القوافي الثلاث موجودة والقفلة تتكرّر في آخر كلّ ردّة ولكنّه كلام بسيط وأفكارٌ هي الأخرى عادية مقارنة بقصائدي الأخرى كمدائحي لآل البيت عليهم السلام وللمقاومة التي أحضر لها بجدية قبل شهر من مناسبة إلقائها احتراماً لشعري ولجمهور شعري.
*لماذا لا تستفيدون من أوزان الفصحى للتنظير للوزن العامي؟
-لم يتصدّ لهذا الموضوع أحدٌ. عندي مشروعي الخاص في هذا المجال خاصة وإنّي ألاحظ تقارباً كبيراً في بعض الأوزان. إليكِ مثلاً لون الرّويدْ. الذي يستعمل في المآتم والأحزان لأنّ إيقاعه متباطئ، كئيب متمهل كالحداد في الصحراء..
نحن الرجولة سلاحنا.. بأحزاننا وأفراحنا.. برواحنا منفدي الإمام...
إن عاز الإمام أرواحنا.. ويردد الكورس هذه اللازمة..
لاحظي وزن الفصحى وإيقاعه:
يا من بدنياه انشغل...قد غرّه طول الأمل.. الموتُ يأتي بغتةً.. والقبر صندوق العمل..
إذاً تقترب ألوان الزجل من أوزان الفصحى وهي تنتظر من يؤطر لها ويُنظّر وأحب أن أختم إجابتي بهذه الردّة التي قيلت في مأتم السيد محسن الأمين قدس سره وهي ردّة تظهر قدرة الزجل على تبيان التعبير بأرقى الصور الفنيّة كالفصحى عن معظم قضايانا الإنسانية:
نبع يروي القاصدينو
مات مين كان بيمينو
كيف فيكن حاملينو؟
الحامل رسالة محمد
*هل تقترح أمراً يعطي الزجل اللبناني دوره المفترض أن يكون له. ليساهم في خدمة قضايانا كما أسلفت سابقاً؟
-يعنيني فعلاً أن يصل الزجل إلى دوره الريادي في التعبير وأرفض من رؤيتي اليوم للأمور كافة أن يبقى الزجل محصوراً بحفلات ترفيهية وجلسات تحدٍ فارغ لا تهدف إلاّ إلى التفوق الشخصي. أنا أدعو لتفوق قضايانا عبر الزجل لنرتقي به، فمن قبل سوانا إلى مرتبة الهدف والقضية. وأنا أتبنى هنا بقوة دعوة الوزير بطرس الذي كان وزيراً للتربية عندما قال في تكريم الشاعر الزجلي إدوارد حرب: سأطلب في جلسة الحكومة أن تأخذ بعين الاعتبار هذا الفن التراثي، الذي خدم وما زال يخدم قضايانا الوطنية وذلك بجعله مادّة دراسية تدرس بالمدارسن فنّا من فنون الشعر في مادة الأدب.
*ألا ترى مع شديد احترامنا لمقولة معالي الوزير السابق ولتبنيك الراجع لهذه المقولة أنّ حماسك يبلغ حدّ التنكّر للفصحى أو يكاد أن يكونه؟
-بأهدأ من الهدوء – يجيب قاطعاً "حبل صمت شاعري متأمل". هل تنكّر أهل الخليج للفصحى عندما حافظة على شعرهم الشعبي المسمّى بالنبطي؟ دعيني أسأل بدوري وهل تنكّر المصريون للفصحى ولديهم ما يسمونه الزجل؟ تماماً كشعرنا؟ ماذا تقولين في الشيخ إمام الذي أنشد باللهجة العامية المصرية أروع القصائد الوجدانية؟ وماذا عن الزجل السوري، والأردني الذي يتشابه مع زجلنا؟ ثمّة أدب شعبي ولهجة محكية وشعر عامي في كلّ أمم الأرض، بفرنسا وإنكلترا؟ هل صار حفاظي على تراث وطني وإرث عائلتي تنكراً للفصحى التي بها أفتخر وأعتز؟ نشأ شاعراً، في بيت شعر عامي زجلي ونشأت أيضاص على احترام الفصحى وتقديرها، ولكني أتصور أنّي أُبدع في مجال لا يبدع فيه سواي كما يبدع سواي في مجال لا أبدع أنا فيه لذلك التزمت مجالي وعملت على صقله وتهذيبه وتطويره ولا أعتقد أن قصيدتي تقلّ أهمية عن القصيدة الفصيحة. ألم تجدي في كلّ ما قرأته لكِ ما يقنعك بأنّني لم أتنكر للفصحى أبداً بل تأثرت بومضاتها ومفرداتها؟
*بلى، هذا صحيح ودليلي أنّني أخذت عليك محاولتك "تطعيم" القصيدة العامية بمفردات فصيحة تبدو نافرة في سياق قصيدتك السلسة العذبة. لذلك أتساءل هنا، أهي محاولة "استنساخ" شكل عامي جديد للقصيدة الزجلية في الربع الأخير من القرن العشرين وذلك على مبدأ اللعب بالجينات الوراثية للشعر العامي؟
-ألا توافقينني الرأي أنّ هناك مفردات اعتدناها عامية وهي في الأصل فصيحة؟
*بلى! ولكن كان بمقدورك أن تستبدل كلمة "قسموا يمين" التي احتارت بين الفصاحة والعامية بكلمة "حلفوا يمين" في أمسيتك الشعرية منذ خمس سنوات..؟
-صحيح.. ها أنذا أوافقك أنّ القصيدة العامية تقترب أكثر من قلوب مستمعيها إذا ابتعدت عن الفصيح النافر، الواقف عكس انسياب البساطة والسلاسة فيها، ولكن قد يضطر أحياناً إلى استعمال مفردة لا تجد سواها يحسن التعبير عن المراد في موقعها. ألا يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره؟
*وللزجلي أيضاً؟
-للزجلي أيضاً.. لاحظي أنّ الشاعر موسى زغيب لم يجد في قصيدته التي ألقاها في ذكرى مجزرة "قانا" كلمة يعبر فيها عن صيدا التي قاومت الغزو الفارسي قديماً وأحرقت نفسها أفضل من كلمة "نستعمر" وصار بسماها يكتب الدخان منموت.. أفضل ما "نستعمر".
*يقنعني جداً قولك أنّ الشعر الشعبي تراث وطني وأدعو دعوتك للحفاظ عليه ولكنّي أخشى ما أخشاه أن يكون الحماس لهذا التراث دعوة إلى محاربة الفصحى التي تجمع تحت لوائها ليس الشعوب العربية فحس بل والإسلامية أيضاً... وذلك على مبدأ "زحلنة لبان ولبننة العالم" الذي دعا إليها سعيد عقل، ألا تعتقد أنّك باعتمادك العامية وسيلة تعبير وحيدة تروج لدعواه التي ربما كانت تختزن خلفية سياسية ما؟
-أولاً: للفصحى صرح يحميها وهو القرآن. وللقرآن رب يحميه وهو الله سبحانه وتعالى، لذلك أنا لا أخاف على الفصحى مطلقاً.
ثانياً: أنا لم أطّلع على تفاصيل دعوة الشاعة سعيد عقل، الذي اعترف له بالشاعرية الفذّة فيما كتب فيه من دواوين فصيحة وقصائده مشهورة "وغنيت مكة، زهرة المدائن..." لذلك لا أملك رأياً واضحاً بهذه المسألة، جلّ ما لدي، إنّني أمتلك أسلوبي الخاص، الذي يواكب اللغة الفصحى التي أترنم بها كثيراً على مبدأ قول الشاعر مظفر النواب "أترنم من لغة القرآن فروحي عربية" أما أنا فأضيف وروحي إسلامية، وثالثاً وأخيراً، أنا أجد أن الفصحى هي اللغة الرسمية التي تشدني إلى إخواني في كلّ المحافل وهي والحمد لله لا تفتقد حجماً كثيراً من الشعراء المبدعين الذين يعبّرون بها وبالتالي يواكبون تعبيري العامي كمواكبتي لهم.
*لو طلبت رأيك ببعض الأسماء في بعض المواقف، فلنقف مع شاعرين أسعد سعيد الذي وزع قصيدته قطع لحم على تمثال الحرية تحت عنوان "عزيزي كلينتون" وطليع حمدان الذي وصف "قانا" بعروس اغتسلت في يوم عرسها؟؟
-لقد ذكرت الشاعر أسعد سعيد منذ قليل منوّهاً أما في هذه القصيدة بالذات فإنّني آخذ عليه محاولته التفرد بالتعبير على حساب الوزن والقافية، مستنداً على مقولته التي بدأ بها قصيدته "إنو كل شاعر بدو يغير بأسلوبو.
أمّا فيما يخصّ طليع حمدان فأنا كنت أتمنى عليه أن ينزع عن قصيدته قبعتها المتعالية. قصيدته كانت أجمل بدونها، لأنّ المقام لم يكن مقام تحدٍ للشعراء لم تكن هناك حفلة زجليةن كان هناك عرسٌ جنائزي لقانا الشهيدة. كنت أتمنى على الزميل طليع أن يؤجّل المدح الذاتي لحفلة زجل لا لندوة رثاء لعروس القرى التي أبدع هو بالذات في رثائها، شرط أن يخلع عنها قبعة "التحدي" التي أخفت ملامحها الجميلة خلف سماكة اعتداده بشعره.
*ساهم الشعر الشعبي في رثاء "قانا" عروس الشهداء في عرس الشهادة في نيسان، كيف للزجل أن يواكب عرس الشهادة في كربلاء وفي مواسم عاشوراء، وخاصة في أنّ الزجل لون الرّويد الذي حدّثتنا عنه منذ قليل؟ ولماذا لم يدخل حتّى اليوم في صلب المراسم الحسينية مواكباً مجالس العزاء؟
زمن مضى وأنا أتشاور مع الإخوان قرّاء مجالس العزاء في كيفية الاستفادة من الزجل اللبناني في التعبير عن هذا الموسم الجليل المهيب. ولا أضيف جديداً لو قتل أنّ المحاولات تنبعث من شعورنا بأنّنا غالباً ما لا نفهم بعض المقامات المؤداة بالعامية العراقية.
-يقاطع إجابته وليعقب على سؤال سابق – ما رأيك هل تنكر العراقيون للفصحى؟ ألم يحترموا تراثهم الشعبي واتخذوه وحده شكل تعبير عن أحزانهم؟ - لا أملك إلاّ موافقته على ما يقول وأدعوه للمتابعة. التي أضافت الجديد المقنع – ولأنّ هدفنا من سماع مجالس العاشوراء ليس فقط التأثر بالصوت الجميل بل فهم الكلمة المعبّرة واستخلاص العبرة الخالدة من شهادة الحسين فقد فكّرنا لا بإلغاء القصائد الأولية – كي لا تغضبي للفصحى – بل بكتابة نص جديد يجمع بين النص الأدبي الفصيح ومقام الرّويد الذي تحدثنا عنه سواء جاء بالعامية أو بالفصحى وهي على كلّ حال لن تكون محاولة مبتكرة بقدر ما ستكون محاولة تجديد وبعث وإحياء لتقليد كان قديماً على زمن الوالد عندما كانت تنتهي المراسم الحسينية في اليوم العاشر، كان الناس وفي مقدمتهم الشعراء يطوفون الشوارع وهم يردّدون بلون الرّويد الكئيب هذا الحداء:
رجّت الأرض وسماها
زينب تندب أخاها
أين من يحمي حماها..؟؟
ابن أحمد ابن حيدر
*لا بأس بالعودة إلى زين المراجل – الوالد – هل اقتصر تأثر على سيف علي عليه السلام أم أنّه بكى الحسين في شعره...
-بل بكى الحسين في قصيدة مشهورة كانت تطبع في كل عاشر من محرم وتوزع على الجماهير الحسينية في كتبيات صغيرة. مطلعها يقول: "من وقعة محرم لعاشر يوم فيه".
*ظاهرتان لافتتان برزتا بقوة في برنامجك التلفازي مجالس الشعراء. فلنتحدث قليلاً عن أولاهما. استضفيت امرأة تنشد الزجل ألا ترى معي أنّ المنبر الزجلي "رجالي" ما هو شأن النساء بين أعواده؟
-صحيح، استضفت الشاعرة وداد كرم. أما قولك أنّ المنبر الزجلي "ساحة الرجال وبس" فأنا لا أوافقك الرأي؟ اسمحي لنا بهذه على الأقل.. المنبر الزجلي. إنساني عام وليس حكراً على أحد، لا أنكر أنّ المنبر الزجلي في لبنان يفتقد للصوت النسائي، وهذا عائد لأنّ الناس لم تألف هذه المسألة تماشياً مع العادات والتقاليد وربما لم تجد المرأة في هذا المنبر ما يدفعه إليه، أما وداد كرم فهي شاعرة ولها ماضٍ ومواقف مجيدة ناجحة وقصائد رائعة وهي بعد معروفة جداً في مناطق الشمال وكسروان وقد حاورت كبار الشعراء وكانت تؤسّس جوقة زجلية، وقد حاورت والدي بالكويت..!
*ظاهرة العمر والسن! لماذا يبتعد معظم الشباب عن التعبير الزجلي ولا يوجد في الميدان إلاّ أبو علي وجيله وأبناؤه فقط من جيل الشباب؟
-لسنا وحدنا في الشرقية العائلة التي تقول الزجل، هناك عائلات أخرى مثل آل قبيسي وبرو وبيت مروة و...! أما ملاحظتك من خلال برنامجي أن العنصر الشاب شبه مفقود، أقول موافقاً، أنّ أسباب هذا الأمر هي الحرب اللبنانية التي أبعدت شبابنا عن تراثنا ورمتهم بسهولة في أحضان الصراعات الغربية، التي تفتقد للذوق الفني والحس الإنساني، وربما كانت مشاعر الكآبة والحزن سبباً للبحث عن الرفيه خارج المنبر الزجلي.
*التقى في شخصك: الشاعر والناقد والإعلامي، أين يجد نديم شعيب تفاصيل بطاقة هويته الشخصية بين هؤلاء؟
-في الشاعر فقط، لست إعلامياً، ولو كان حواري في حلقاتي مع شخصيات أخرى غير الشعراء لما حاورت ولما استضفت أحداً، لأنّني شاعر، حاورت من أفهمهم ويفهمونني. لذلك ما كنت إعلامياً ولن أكون. أما النقد، فأنا فعلاً أمارس على نفسي نقداً قاسياً أعيد وأبدل وأغير كثيراً في قصائدي وأعتمد النقد الواضح والمهذب مع الآخرين وأشترط فيمن يمارس النقد العام والخاص المعرفة إلى جانب الذوق، والاختصاص. لا أستطيع أن أنتقد شاعراً بمستوى حسن العاشور "أبو زننب" هو شاعر الصورة الشعرية العميقة الرائعة وشاعر الحزن والكآبة العراقية بامتياز، ولكن بالفصحى وأنا لا أملك أمام الفصحى وأمام العاشور بالذات إلاّ الإصغاء والتحليق بعيداً حيث تحملني أفكاره وقصائده، لأنّني لست مؤهلاً لنقده كما أنا مؤهل لنقد شعراء الزجل والشعر العامي الذين يتبادلون معي النقد بروح المسؤولية والتذوق الفني، والخبرة على مبدأ "ولكم في الحياة قصاص.." ولكم في النقد البنّاء شعر يا أيها الشعراء..
*أخيراً، أتيناك ونحن نعلم أنّ المقاومة الإسلامية والأئمة المعصومين أهم الركائز التي اعتمدتها شاعريتك الزجلية العامية كميراث تعبير، هل هناك ركائز أخرى؟.
-أجل هناك أنثى تتشبه بها المقاومة عزاً وشموخاً وإباءً. هناك أنثى تفوق الإناث وتسود نساء العالمين جمعاً إنّها الزهراء، مختصراً الفضيلة ومنبع القيم ورائدة المقاومة الأولى..
إذاً فلتكن النهاية مقررةً منذ البداية. سمعنا أبيات الخطوات الأولى فلنسمع الآن أقرب القصائد وأغلاها على قلبك. يجيب من دون تردّد: إنّها لها. لملهمتي وملهمة المقاومين كيف تسمو المقاومة برجالها. لصاحبة الصوت الخالد في أسماع التاريخ مقاومةً للظلم والظالمين.. لزهراء آل محمد.
بعيد الطهارة والوفا جينا
نعيّد سوا، نقدّم تهانينا
بعيد البتول المفضلة ع الكون
وبدر الهدى الشعشع ليالينا
ومن كل زهرة جبت عطر ولون
ونفحات حلوة عن روابينا
وطلبت من رب الخليفة العون
بيوت الشعر تحلا بأغانينا
بمولد الزهرا بنت هادينا
بمولد الزهرا شعشع الديجور
وصار العمر من فرحتو يغني
والشمس حرقت حالها بخور
ونجمة الزهرا نزلت تهني
والأرض فاقت ع صياح النور
يا نور الله بثمرة الجنة
تهني يا جنة وزلغطي يا حور
ورشي الكوثر ع سواقينا
بمولد الزهرا بنت هادينا
بمولد الزهرا تحرّوا بسمات
والصخر ع ضفاف النهر زهّرْ
والبحر كسّر حدة الموجات
اليهمدوا ع شاطئ بنهايتو سكّر
تبخر السكر وانفلس غيمات
ومطر ندى ع وردنا الأحمر
والفجر لحّن غنوة النحلات
وسال العسل من بسمة الكينا
بمولد الزهرا بنت هادينا
بمولد الزهرا النبي صليت
وصلّت سماوات العلى السبعة
وبسراج شعري عصرت فكري زيت
وفجرت عيني للشرب نبعة
وقديش بعيون الوفاء تمنيت
حتّى الصورة تضل منطبعة
وترسي سفينة نوح أهل البيت
اعمل من دموع الفرح مينا
بمولد الزهرا بنت هادينا
بمولد الزهرا ولد الأحرار
بطلة كواكب نور متصلة
أحد عشر بدر من خيرة الأخيار
بحلقات عفة غير منفصلة
ومن قلب نور ابن وعزم كرّار
يولد الأصلي ويخلق الأصلي
ت يضلنور المصطفى المختار
يسطع علينا بنور مهدينا
بمولد الزهرا بنت هادينا
والروح قبل الفجر مع هالأمر
بأجمل صور يتكون مرتسمة
بتعمل على الفردوس رحلة عمر
بين الحلا والطيب والنسمة
بتقول يا صحاب الجباه السمر
منشان يصحب رجعتي جسمي
من نهر الله خالقو من خمر
صبيلنا الكاسات واسقينا
بمولد الزهرا بنت هادينا
ي شعر مولدها عطاك شموخ
وكل ما ع فجرو جفنك بيوعا
بتصير عن لوح السما منسوخ
وكل حرف منك ألف موسوعة
وكانت الريشة ببتعب وبتدوخ
لوما باسمك دوم مرفوعة
والقافية بطول الحكي بتبوح
وع حبك بتنزهي قوافينا
يم الحسن يا بنت هادينا
بيوم الولادة بهالسماجينا
تنسهر سوا تنقدّم تهانينا
يم الحسن يا جرحنا الباكي
يا جرح حاضرنا وماضينا
معقول ننسى نفسنا نحاكي
وننسى موالدنا وأسامينا
ويوم الولادة ما مننساكي
ويوم الشفاعة ما بتنسينا
ما دام روحك عايشة فينا
يم الحسن يا بنت هادينا
الحاج نديم شعيب
"أبو علاء"