آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ
انطلاقاً من الدعاء المأثور: "اللّهُمَّ ارْزُقْنا تَوْفِيقَ الطَّاعَةِ"(1)، يتعرّف المؤمن إلى وظائفه في عصر الغيبة. ومضافاً إلى الوظائف الشخصيّة للمنتظرين التي تحدّثنا عنها في العدد السابق، إليكم في ما يأتي بعض الوظائف الاجتماعيّة، والتي يشير إليها هذا المقطع من الدعاء: "وَطَهِّرْ بُطُونَنا مِنَ الحَرامِ وَالشُّبْهَةِ، وَاكْفُفْ أَيْدِيَنا عَنْ الظُّلْمِ وَالسَّرِقَةِ، وَاغْضُضْ أَبْصارَنا عَنْ الفُجُورِ وَالخيانَةِ، وَاسْدُدْ أَسْماعَنا عَنْ اللَّغْوِ وَالغِيْبَةِ، وَتَفَضَّلْ عَلى عُلَمائِنا بِالزُّهْدِ وَالنَّصِيحَةِ، وَعَلى المُتَعَلِّمِينَ بالجُهْدِ وَالرَّغْبَةِ".
* دائرة الأمن الاقتصاديّ
من وظائف أهل الانتظار أن تكون لديهم نشاطات اقتصاديّة مشروعة تدرّ عليهم ما يساعدهم على تأمين معاشهم ووسائل رزقهم.
وهذا الجانب الهامّ إنّما يتحقّق في ضوء الاهتمام في ما ورد في هذا الدعاء الشريف:
أ- الابتعاد عن كسب المال الحرام الذي لا يحوم إلّا حول هتك خطوط الأحكام الإلهيّة والظلم والإجحاف بحقّ الآخرين؛ "وَطَهِّرْ بُطُونَنا مِنَ الحَرامِ".
ب- اجتناب الأموال التي يختلط فيها الحلال والحرام بنحو لا يمكن تحديد الحلال منها؛ "وَالشُّبْهَةِ".
* دائرة الأمن الاجتماعيّ
يتحقّق الأمن الاجتماعيّ والأخلاقيّ للمجتمع الإسلاميّ من خلال مراعاة الجهات الثلاث الآتية:
الأولى: رعاية حقوق الآخرين التي تمّ بيانها في هذا الدعاء الشريف ضمن عنوانَين كلّيّين:
أ- إنّ تضييع حقوق الآخرين أو عدم إعطاء أصحاب الحقّ حقوقهم يعدّ مصداقاً للظلم، سواء أكان الحقّ حقّ الشخص نفسه أم الآخرين، أم حقّ الله أم حقوق المخلوقات، وسواء أكان الحقّ ماديّاً أم معنويّاً. فمن وظائف المؤمنين المنتظرين أن "وَاكْفُفْ أَيْدِيَنا عَنْ الظُّلْمِ".
ب- لو أقدم شخص عن قصدٍ وعلمٍ على أخذ شيء –ماديّاً كان أم غير ماديّ- من حقوق الآخرين خفية بلا مبرّر شرعيّ، عُدّ هذا الفرد سارقاً. إنّ أهل الانتظار الحقيقيّين لا يحافظون على هويّة الآخرين وحقوقهم فحسب، بل لا يُقدمون على سرقة أيّ حقّ من صاحبه؛ "وَالسَّرِقَةِ".
الثانية: إنّ غضّ البصر يجعل العيون الطاهرة لائقةً بالنظر إلى مظاهر جمال الحقّ، وأمّا العيون غير الطاهرة فهي مفتاح حصول الرجس والدرن في القلب. وعلى هذا الأساس يلزم صيانة العين من أمرين:
أ- إنّ الإعراض عن العمل، بمقتضى التقوى واعتدال الأخلاق الإنسانيّة، موجب لظهور الفسق والفساد وارتكاب الفجور والموبقات. وللفجور معنى ينسجم مع كلّ شيء بحسبه؛ ففجور العين أن يرى بها مناظر تخالف رؤيتها مقتضى التقوى. وعليه، فاجتناب هذه المناظر مِنْ وظائف مَنْ تعلّق قلبه بانتظار آخر ذخيرة إلهيّة؛ "وَاغْضُضْ أَبْصارَنا عَنْ الفُجُورِ".
ب- الخيانة هي العمل -ولو مع القصد القلبيّ- على خلاف عهد تكوينيّ أو تشريعيّ يلزم بالعمل بمقتضاه. والخيانة كالفجور، لها معنى ينسجم مع كلّ شيء تعلّق به بحسبه. وعلى هذا الأساس، فخيانة العين هي أن يستعملها على خلاف إرادة أوامر خالقها. وعليه، فاجتناب خيانة العين من وظائف أهل الانتظار؛ "وَالخيانَةِ".
الثالثة: لا يكون لقول الحقّ أو كلام الله ثمرة في القلب ما لم توجد أذن لها قابليّة الاستماع. فيجب على الفرد والمجتمع الذي يعيش حالة انتظار وليّ الله في زمانه، أن ينزّه كلامه حتّى يكون له قابليّة تامّة. وذلك إنّما يتحقّق بمراعاة أمرين:
أ- إنّ كلّ فعل أو قول لا ثمرة فيه لا يرتكز على أُسس فكريّة، يعدّ لغواً يوقع المرء في العبث. فيجب على المنتظرين الصادقين لإمام العصر أن يحفظوا أسماعهم عن اللغو؛ "وَاسْدُدْ أَسْماعَنا عَنْ اللَّغْوِ".
ب- إنّ الغيبة هي ذكر المسلم بما يكره. ولهذه المعصية الكبيرة دورٌ في كُدورة روح الإنسان وتضييع قابليّة الهداية لديه. لذلك كان خليقاً بالمؤمنين المنتظرين أن يجتنبوا الاستماع إلى هذا النحو من الكلام؛ "وَالغِيْبَةِ".
* وظائف مختلف أطياف المجتمع
1- وظائف العلماء: يقف العلماء –ولا سيّما علماء الدين- في الصفّ الأوّل لقافلة الإصلاح وسداد الأمّة. وعلى هذا الأساس، تقع على عاتقهم مسؤوليّة كبيرة في مجال تهيئة الأرضيّة اللازمة لظهور آخر حجّةٍ إلهيّة عجل الله تعالى فرجه الشريف. إنّ من أهمّ ما يقع على عاتق هذه الفئة ما يلي:
أ- الزهد: إنّ أخطر آفة تواجه العلماء هي طلب الدنيا والميل إلى التعلّقات الدنيويّة(2). فعلى العلماء أن يسعوا إلى تقوية ملكة الزهد لديهم، والإعراض عن زينة الحياة الدنيا الحقيقيّة والاعتباريّة إلى درجة تجعل باطنهم لا يميل إلى الدنيا أو التعلّق بها أبداً؛ "وَتَفَضَّلْ عَلى عُلَمائِنا بِالزُّهْدِ".
ب- النصيحة: النصح هو الخلوص التامّ والنزاهة عن الشوائب والرياء. لقد ورد في هذا الدعاء الشريف أنّ على العلماء أن ينزّهوا فكرهم وقولهم وفعلهم عن شوب الكدورات، وأن يخلصوا في إرادة الخير لهذه الأُمّة، فلا يفكّرون ولا يقومون إلّا بما فيه الخير لهم وما فيه صلاحهم. ومن اتّصف بهذه الصفات، كان جديراً بالانتماء إلى زمرة المنتظرين الصادقين؛ نظراً إلى أنّ إمامهم المنتظر أفضل الناس في زمانه زهداً ونصيحة؛ "وَالنَّصِيحَةِ".
2- وظائف طلبة العلوم: ثمّة جملة من الوظائف التي تقع على عاتق هذه الفئة لغرض تهيئة الأرضيّة لتأسيس ثقافة الانتظار والإصلاح والتمهيد للظهور، وهي كما يلي:
أ- السعي لطلب العلم: إنّ الفرد أو المجتمع الفاشل لا يتمكّن من استيعاب مراتب الانتظار الحقيقيّة، ولا يمكنه أن يساهم في إيجاد الأرضيّة لظهور إمام يمثّل خزانة العلم الإلهيّ(3). ومن هذا المنطلق، فالسعي إلى تحصيل وطلب العلم من آكد وظائف المنتظرين الحقيقيّين لذلك الإمام الهمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولا سيّما طلبة العلوم الدينيّة وطلبة الجامعات؛ "وَعَلى المُتَعَلِّمِينَ بالجُهْدِ".
ب- الرغبة في كسب العلم: الرغبة هي الميل الشديد، وهي صفة أخرى يمتاز بها الطلبة المنتظرون من الذين لهم ميل شديدٌ إلى كسب العلم والوقوف على آخر الابتكارات العلميّة والفكريّة وإنتاج العلم والمعرفة. ومنه يتّضح أنّ على الطلبة المنتظرين أن يسعَوا ويجتهدوا في تحصيل العلم بكلّ شغفٍ ورغبةٍ؛ نظراً إلى أنّ السعي بلا رغبةٍ وشوقٍ لا يفضي إلّا إلى الجمود والخمول، فتتوقّف وتنطفئ شعلتها؛ "وَالرَّغْبَةِ".
(*) من كتاب: الإمام المهديّ الموجود الموعود -الفصل الرابع: الانتظار – بتصرّف.
1- البلد الأمين، الكفعميّ، ص 350.
2- راجع: غرر الحكم، ص 48.
3- حسبما أشير إليه في الزيارة الجامعة، فراجع: من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج 2، ص 609.