مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

إلى كل القلوب: حامل راية كربلاء (*)


سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)


من المهمّ جدّاً أن نتحدّث عن حامل راية كربلاء، ومواصل دربها، ومحيي قضيّتها، ومنجز أهدافها، الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليهما السلام، أوّلاً: من أجل أن نعرفه، فمعرفته واجبٌ علينا، وثانياً: من أجل بعض إنصافه؛ لأنَّ الإمام عليه السلام ظُلم في التاريخ أيضاً، إذ أساء إليه كتّاب السلاطين في كتب التاريخ، وثالثاً: من أجل الاقتداء به، والمضي في نهجه وكلماته التي أصبحت شعارات وكلمات توقظ الحماسة وتدفع إلى الأمام، على مدى الأجيال وإلى قيام الساعة.

* مكانة الإمام عليه السلام عند السنّة والشيعة
من ألقاب الإمام عليّ بن الحسين عليه السلام، المعروفة بين المسلمين سنّةً وشيعة: زين العابدين، وسيّد الساجدين، والسجّاد، ولكنّ الأشهر بينها هو زين العابدين، وهذا اللقب يعود إلى وصف أطلقه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كانت من معجزات رسول الله وكراماته صلى الله عليه وآله وسلم ومن إخباره بالمغيّبات، وقد نُقل هذا الأمر في روايات عديدة:

- ففي روايات الشيعة، نُقل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام بسنده الذهبيّ عن أبيه الباقر عن الأئمّة عليهم السلام إلى رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: أين زين العابدين؟ فكأنّي أنظر إلى ولدي عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب يخطر بين الصفوف"(1). ولقد أسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يولد أصلاً؛ فحينما كان الإمام الحسين عليه السلام لا يزال فتى صغيراً، أخبره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه سيكون لديه ولد، وسيُسمّيه عليّاً، سيكون عابداً زاهداً من أهل العبادة والسجود.

- ومن روايات إخواننا أهل السنّة، ما رواه الحافظ بن عساكر بسنده عن سفيان بن عيينة عن أبي الزبير قال: "كنّا عند جابر" -المقصود جابر بن عبد الله الأنصاريّ الصحابيّ المعروف- "فدخل عليه عليّ بن الحسين فقال له جابر" -جابر هو من يخبر عليّ بن الحسين فيما الجالسون ينصتون- "كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل الحسين عليه السلام فضمّه إليه وقبّله وأقعده إلى جنبه ثمّ قال [للحاضرين]: -يُولدُ لابني هذا ابنٌ يُقال له عليّ بن الحسين، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش ليقم سيّد العابدين فيقوم هو"(2)؛ أي الإمام زين العابدين عليه السلام.

* العناية الإلهيّة
أثناء واقعة كربلاء، كان عمر الإمام عليه السلام 23 أو24 عاماً، على اختلاف الروايات، والمعروف أنّه كان مريضاً في كربلاء، وكان لا يقوى على الوقوف أو حمل السيف بسبب وهن جسده، ومع ذلك كان يستأذن للقتال، ولكنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يأذن له، ليس لأنّه ابنه ويريد أن يحافظ عليه، وإنّما من أجل استمرار المسؤوليّة والإمامة والقيادة من بعده، والإمام الحسين عليه السلام كان يشرح له سبب ذلك.

فالعناية الإلهيّة وحدها التي أبقت الإمام زين العابدين عليه السلام على قيد الحياة ليواصل مسؤوليّاته ومهامه، وكلّ شيء آخر يُقال غير ذلك منافٍ للمنطق؛ لأنّنا نتحدّث عن يزيد المجرم القاتل السفّاك، وعن عبيد الله بن زياد، وعن ثقافة قومٍ أرادوا أن لا يُبقوا لأهل هذا البيت باقية، وعن قومٍ لا يتورّعون عن ارتكاب أيّ جريمة وأيّ مجزرة من أجل الحفاظ على سلطانهم، فما من سبب لهؤلاء لأن يُبقوا الإمام زين العابدين عليه السلام على قيد الحياة، إلا أن حالت بينهم وبينه عليه السلام العناية الإلهيّة.

وتجدر الإشارة هنا، أنّ الإمام لم يبقَ مريضاً طوال الطريق، بل شُفي بعد أيّام من حادثة كربلاء، ولذلك فإنّ الصور والمشاهد في بعض المسرحيّات أو المسلسلات أو الأفلام، التي تُظهر أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام كان مريضاً ومحنيّ الظهر طوال الطريق، هي صور غير صحيحة، فلا بدّ أن يلتفت الجميع إلى هذه المسألة.

* أمام مسؤوليّات جسام
بدأ الإمام عليه السلام إمامته وقيادته ومسؤوليّته عن الإسلام والمسلمين والأمّة عصر عاشوراء؛ أي بعد شهادة أبيه الحسين عليه السلام؛ فصار هو الإمام والقائد والوليّ والمسؤول الذي عليه أن يتحمّل كلّ هذه المسؤوليّات. وهذه الحادثة فريدة لا شبيه لها في التاريخ، لأسباب:

أوّلاً: تسلّم الإمام زين العابدين عليه السلام مسؤوليّات القيادة والإمامة دون أن يكون معه أنصار أو أعوان أو أصحاب أو جنود، أو حتّى شخص يحامي عنه؛ لأنّهم إمّا استشهدوا، أو أُسروا في سجون عبيد الله بن زياد في الكوفة، بل كلّ من بقي له عمّـته السيّدة زينب عليها السلام، وبقيّة عمّاته وأخواته وبنات أعمامه وزوجات الشهداء الذين كانوا في كربلاء، ومجموعة من الأطفال.

وهنا، من المفيد أن نصحّح معلومة للتاريخ، أنّ الذين نصروا الإمام الحسين عليه السلام من الكوفة ومن خارجها لم يكن عددهم 72 شخصاً فقط، وإنّما كان ثمّة أعداد كبيرة من الأنصار، ولكنّهم سُجنوا واعتُقلوا في الكوفة والبصرة وفي بلاد المسلمين، ومُنعوا من الوصول إلى الإمام الحسين عليه السلام.

ثانياً: لم يكن بين يدَي الإمام زين العابدين عليه السلام أيّ إمكانات أو أموال، فكلّ أموالهم في كربلاء نُهبت وسُلبت، حتّى ثياب الحسين عليه السلام وحُليّ الفتيات والنساء نُهبت، فلم يبقَ لهم شيء إلّا ما يلبسونه فقط.

ثالثاً: كان الإمام زين العابدِين عليه السلام في وضع نفسيّ ومعنويّ وروحيّ صعب؛ إذ شاهد بأمّ عينيه مقتل أبيه، وأخوَيه عليّ الأكبر وعبد الله الرضيع، وأعمامه، وأبناء عمومته، وأحبّائه، وأعزّائه، وأصحاب أبيه خلال ساعات قليلة. فهو منذ أن تسلّم الإمامة والقيادة، رأى أحزان النساء ودموعهنّ وآهاتهنّ، وسمع صراخ الأيتام والأطفال، وعاين حالة الرعب التي كانت منتشرة.

رابعاً: تسلّم الإمام زين العابدين عليه السلام القيادة وهو في ميدان يقف في مقابله جيش ضخم ليس لديه أيّ قيم أو أخلاق أو إنسانيّة، وحاضر لارتكاب أيّ جريمة عندما يأمره بذلك عمر بن سعد، أو ابن زياد، أو يزيد بن معاوية.

* استكمال مسيرة كربلاء
هذه هي الظروف التي أصبح فيها الإمام زين العابدين عليه السلام إماماً فعليّاً وقائداً مسؤولاً بعد شهادة أبيه الحسين عليه السلام، إذ توجّب عليه أن يتحمّل مسؤوليّة رسالة الأنبياء عليهم السلام وإرثهم. والقضيّة المركزيّة أمامه أن يُكمل ما بدأه الحسين عليه السلام في كربلاء ليحقّق أهدافها، وأن يحمل صوتها، وحادثتها، ووقائعها إلى كلّ الأجيال على مدى الزمان وإلى قيام الساعة. فلولا زين العابدين وزينب عليهما السلام، لحُرّفت كربلاء وزُيّفت عبر التاريخ.

كربلاء لم تكن صراعاً شخصيّاً أو عشائريّاً، وإنّما كانت معركة الإسلام، وكان ثمّة أهداف لكربلاء الحسين عليه السلام على الإمام زين العابدين أن يعمل على تحقيقها بالأساليب الجديدة المتناسبة مع التهديدات، والظروف، والفرص، والإمكانيّات المتاحة، ومن تلك الأهداف:

1-حفظ الإسلام المحمّديّ الأصيل، الذي كان يشوَّه على مدى 20 عاماً من حكم معاوية، ثمّ جاء يزيد ليوجّه له الضربة القاضية، ولذلك كان الحسين عليه السلام يقول: "وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد"(3).

2-إنهاء الشرعيّة المدّعاة لما يُسمّى بالخلافة الأمويّة، وفضح حقيقة بني أميّة وأهدافهم، وإسقاط المشروع الأمويّ بكلّ أهدافه كمشروع ملكيّ قيصريّ استبداديّ لا علاقة له بالخلافة.

3-إيقاظ الأمّة واستنهاضها، وتحريك عقولها ومشاعرها وعواطفها لتتحمّل المسؤوليّة من جديد تُجاه الاسلام والقرآن، وإنجازات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته وأهل بيته عليهم السلام، وما يعنيه ذلك من العودة إلى إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مواجهة السكوت الضعيف المذلّ الذي كان يسيطر على الأمّة أمام ظلم الحكّام في ذلك الوقت.

* أولى المهام
من هنا، استفاد الإمام زين العابدين عليه السلام من كلّ لحظة وفرصة أُتيحت له، ومن كلّ مجلس ومنبر وموقف ولقاء، لتبيان حقيقة ما حصل في كربلاء؛ من المقتول ومن القاتل؟ إلى من ينتمي القتلة؟ وإلى من ينتمي المقتولون والسبايا؟ وهذه كانت الوظيفة والمسؤوليّة الأولى لمواجهة التعمية والتضليل والكذب والتزوير الذي بدأ بعد حادثة كربلاء؛ حيث انتشرت شائعات أنَّ هؤلاء خوارج، خرجوا على أمير المؤمنين عليه السلام، أو أنَّ هؤلاء النساء والأطفال جيء بهم من المعارك التي كانت تخوضها الجيوش الإسلاميّة في خراسان أو بلاد الترك والديلم وما شاكل. وهذه المهمّة كانت تتطلّب من الإمام عليه السلام شجاعة بالغة، وجرأة كبيرة، وعزماً وإرادة، واستعداداً حتّى للموت من أجل تبيان هذه الحقيقة، وقد تجلّى ذلك في مواقف عدّة؛ في الكوفة، والشام، والمدينة المنوّرة.


(*) من كلمة سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في الليلة الخامسة من شهر محرّم 1441هـ، الموافق 4/9/2019م.
1- الأمالي، الصدوق، ص 410.
2- تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر، ج 41، ص 370.
3- الفتوح، ابن أعثم الكوفيّ، ج 5، ص 17.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع