(عن لسان زوجة الشهيد هلال علوية)
رقيّة كريمي
رأيتُه من بعيد. مع أنّني لم أكن بخير. لم أكن أصدّق أنّ "هلال" نال حلم الشهادة وأنّني أقف هنا.. أشارك في هذا المشهد المهيب في تشييعه. كنتُ أشعر أنّني في كابوس، ولكن من بين كلّ المشيّعين رأيته. كان الشابّ نفسه. كنتُ أعرف شكله تماماً. كيف لي أن أنساه وأنا كنت أراه كلّ يوم من خلف الستار! رأيته في التشييع واقفاً تحت الشجرة، يبكي بشدّة.
•دائماً بانتظاره
كنتُ بانتظاره. كنت معتادةً هذا الانتظار الجميل. بعد أوّل يوم من زواجنا، كنتُ دائماً أنظر إلى الساعة الجميلة التي اشتراها لي، وكنتُ أقول بهدوء: "الآن سيصل". لم يكن يحبّ القهوة، فكنتُ أحضّر الشاي ولا أحتسيه حتّى يأتي ونحتسيه معاً. كانت رائحة الشاي تملأ أرجاء البيت كلّه.. كنت أقف خلف النافذة، أراقب الطريق من خلف الستار. لم أكن أفتحه. كنتُ أعرف أنّه لا يحبّ أن أقف خلف النافذة وأنتظره. كنتُ أنظر إلى الطريق من زاوية صغيرة من خلف الستارة الرقيقة. كلّ يوم كنت أراهما. ذلك اليوم أيضاً رأيتهما. نظرتُ إلى ساعتي بقلق وهمست بهدوء:
- "الآن يأتي هلال".
•"ماذا قلت لهما؟!"
لا أعرف ماذا كانا يقولان فقد طال وقوفهما. كلّ يوم كنتُ أراهما. الفتاة ربّما لم يكن عمرها أكثر من 17 عاماً، والشابّ أيضاً لم يكن عمره أكثر من 20. اعتدت أن أراهما كلّ يوم. كانا يتكلّمان في زاوية خفيّة من البستان. في البداية، كنت أضحك في سرّي وأتساءل: "يا ترى ماذا يقولان؟". الحياة الحقيقيّة أصعب من هذه الجمل الجميلة التي يتبادلانها. لم أكن أهتمّ. كنتُ أنتظره فقط. ولكن في ذلك اليوم طال كلامهما وأنا كنت قلقة؛ كنت قلقة من أن يأتي "هلال" ويراهما. وكنت أعرف أنّه لن يسكت عن هذا. أخذتُ الستار بقلق وردّدت: "لماذا لا تذهبان؟"، لم أكد أنهي کلامي حتّى رأيتُ "هلال" يأتي من بعيد. أغمضتُ عينَيّ. ولأوّل مرّة لم أفرح بمجيئه. جلستُ على الكرسيّ ووضعت يدَيّ على رأسي ورحتُ أقول: "أرجوك هلال، لا تقل شيئاً". لم يهدأ قلبي. ونظرتُ من زاوية الستار من جديد. كان يكلّمهما. لم أعلم ماذا يقولون. كنتُ أخاف من الشجار. بعض الشباب هذه الأيّام لا يسمعون النصيحة، وبعضهم لا يحبّونها. لم أكن أستطيع أن أفعل شيئاً. لم أستطع أن أنظر أكثر. جلستُ على الكرسي مرّة أخرى ووضعت يدَيّ على رأسي بانتظار أن يرفع الشابّ صوته ويقول: "ليس من شأنك"، ولكنّه لم يرفعه. لم أسمع صوتاً إلّا صوت الباب. ولم أسمع إلّا اسمي. كان دائماً عندما يدخل البيت يناديني. رأيتُ الابتسامة الجميلة على شفتَيه، وأنا غارقة في القلق. قلتُ له: "ماذا قلت لهما؟". ذهب ليغسل يديه. سمعتُ صوته من المطبخ يقول: "لا شيء".
•"لا شأن لنا بهم"
لا أعرف لماذا كنت قلقة. ربّما لأنّني كنت أعشقه ولم أكن أتحمّل أن يقول له أحد شيئاً. قلت:
- "هلال... اتركهما وشأنهما. لهما والداهما... لهما أسرتهما... هذا ليس واجبنا".
عاد إلى المطبخ وكان يجفّف يديه: "نحن أيضاً مسؤولون. هما من شباب مجتمعنا. تلك الفتاة غداً ستكون أمّاً. لا تربّي الأمّ أطفالاً مهذّبين إلّا إذا كانت هي مهذّبة". سكبت له فنجاناً صغيراً من الشاي وقلت: "لو غضب ذاك الشابّ، لو قال لك ليس من شأنك، لو أمسك ياقتك، ماذا كان سيحصل حينها؟! اتركهما يا هلال... ليس شأننا".
كنت أسمع صوت الملعقة الصغيرة في فنجانه الأبيض. كنت أشعر بالأمان من صوت هذه الملعقة. كنتُ أشعر بأنّه بقربي. كلّ يوم يعود في هذه الساعة ويحتسي الشاي وأنا أنظر إليه.
قلت: "ماذا قلت لهما؟"، ابتسم وقال: "لا شيء... قلت للفتاة هل سيفرح والدك لو رآك هنا؟ ألا تخجل والدتك لو رأتك تتكلّمين هنا خفيةً مع شابٍّ ليس من أسرتك؟" كنتُ أنظر إليه صامتة، وقلت بحماس: "لم تقل شيئاً؟". ابتسم واحتسى جرعةً من الشاي وقال: "لا... أصلاً لم ترفع رأسها...". کان يحتسي الشاي بهدوء، عكسي تماماً: "والشابّ... ألم يقل لكَ هذا ليس من شأنك؟". هزّ کتفه وقال: "لا؛ لماذا سيقول ذلك؟ أنا كلّمته كما أُكلّم أخي الصغير. حقّاً كنتُ أشعر بأنّه أخي الصغير. قلت له: هل تحبّ أن ترى يوماً شابّاً مثلك في حديقة مثل هذه يسامر أختك في الخفاء؟".
ملأت كوباً من الشاي لنفسي أيضاً، وجلستُ خلف الطاولة وسألته بكلّ حماس: "ماذا قال؟"، ابتسم وأجاب: "لا شيء... قال الحقّ معك، وهو مطأطئٌ رأسه، ثمّ وضعتُ يدي على كتفه وقلت له: كلّ بنات مجتمعنا هم مثل أخواتنا، فكما لا نحبّ أن يواعد أحد أختنا سرّاً، يجب أن لا نواعد أخوات الآخرين".
قمتُ من مكاني ونظرت من زاوية الستار فلم أرَهما. ابتسمت... كنتُ أعرف أنّني لن أراهما بعد اليوم.
•رأيته يبكي بشدّة
رأيته من بعيد. مع أنّني لم أكن بخير... لم أكن أصدّق أنّ "هلال" نال حلم الشهادة وأنّني أقف هنا.. أشارك في هذا المشهد المهيب في تشييعه. كنتُ أشعر أنّني في كابوس، ولكن من بين المشيّعين كلّهم رأيته. كان الشابّ نفسه. كنتُ أعرف شكله تماماً. كيف لي أن أنساه وأنا التي کنتُ أراه کلّ يوم من خلف الستار. رأيته في التشييع واقفاً تحت الشجرة... يبكي بشدّة.
تعليقة
محمد رضا
2021-08-04 20:23:57
عندما ابدء بقراءة كتابات رقية كريمي ؛ تخلق في نفسي رغبة جارفة لاكتمال القصة و اجد نفسي اتفادى الاشكاليات التي تواجهني نتيجة الاختلافات الايدولوجية بيني و بين صديقتي. إن لكتاباتها من رقة الحديث و سمو المعاني ما يجبر القارئ من المماشات مع الكاتبة و تلك في اعمق الاحاسيس البشرية. فعباراتها سامقة المعاني ، خلابة الاحاسيس ، مرهف المشاعر . أنها هي. بارعة الاختيار ، محترفة الفن، إنها رقية كريمي.