صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

لقاء مع الجريح المجاهد محمّد دبوق (أمير)


حنان الموسويّ


مساحة صوتي لم تكن كافية لجذب أحدٍ نحوي، غادر الجميع المكان بعد بحثٍ طويلٍ دون جدوى، وبقيتُ حائراً وسط النار. تفقّدت نفسي بعد أن استراح لحن الصوت في سمعي. اندثرت أمنيتي حين ودّعتُ المشتهى عائداً إلى سجن جسدي دون الخلاص. تحسَّست رأسي، وجهي، عنقي في بادئ الوقت، وصارت يدي تطوف على باقي جسدي، ما زلتُ حيّاً! 

•جراحات عظيمة
ها قد حان موعد العمل. شددت عزمي لأجلس. وحين اتّكأت على يدي اليسرى، هويت نزولاً حتّى ارتطم وجهي مقبّلاً التراب. استويت مجدّداً وألقيت نظرة أخرى. لم يُبقِ ذئب النار من يدي سوى عظمٍ بارز وإصبعي السبّابة، وشلّال من الدماء يتدفّق مع كلّ نبضة.

وأمّا عن قدمي، فقد بُترت من الفخذ، وتخثّر الدم والتراب حول الجرح فجمد النزف. أوثقت الرباط حول زندي لأوقف النزيف، وزحفت على ظهري باتّجاه الباب. بصعوبة بالغة فتحته قليلاً، فهرع إليّ ملاك ليسحبني. وجهه الصائم عن الوجود اعتلاه الهمّ حين وجدني على هذه الحالة. نادى الرفاق، فحملوني على غطاء، إلى أن نُقِلت إلى المشفى الميدانيّ، وخضعت لجراحة في قدمي ويدي. بعد ذلك، انتقلت إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حيث مكثت تسعة أشهرٍ متواصلة، خضعت خلالها لجراحتين في يدي وجراحة في قدمي، إلّا أنّ معاناتي كانت من الجراثيم التي كانت تجتاح جروحي وتأكلها، ولم تبرأ إلّا بكرامةٍ من الإمام الحسين عليه السلام عند زيارتي له.

•بطعم نداء الشهادة
احتدمتِ المعارك في الزبداني. على عجلٍ استدعاني مسؤولي للالتحاق بالجبهة كمسعف حربيّ. كان الجوّ حماسيّاً، برفقة مَن تركوا ضحكاتهم على مرايا الزمان تجول. اكتظاظ المجاهدين في البيك أب كان لافتاً. كانت مهمّتي في الخطوط الخلفيّة، إلى أن أصيب المسعفون كلّهم واحداً تلو الآخر. 

بعد تواتر الأحداث، طلب منّي قائد المجموعة مرافقته. "المسعف الضاحك" عليه أن يتقدّم مع مجموعة الخرق، والبيت "المحروق" هو المقصد، ومنه الانطلاق لتطهير المنطقة. فجأة، داهمت طلقة ٢٣ المكان وارتطمت بالسقف، ثمّ ارتدّت ومعها قطعة صخريّة كبيرة هبطت على رأسه. شرد غزال قلبي قبل أن أتأكّد أنّ في ليلة القدر كُتبت له الحياة من جديد!

غادرنا المنزل "المحروق" باتّجاه منزل تحته مباشرة. في غرفه المتلاصقة مجموعات من الدواعش ومن المجاهدين، وعلى ضفّة الأرواح كانت المواجهة. بانتظار أمر القيادة، ألقيت ظهري على حائطٍ قرب بابٍ حديديٍّ كبير، محتضناً حقيبة المسعف خاصّتي. وفجأة، عبر الجهاز اللاسلكيّ، سمعت المسلّحين يحدّدون إحداثيّة المكان الذي نحن فيه. وعلى نهدةٍ تحيّر فيها المجاز، حملني ضغط انفجار القذيفة إلى ما وراء الباب الحديديّ. كان اختناقي شهيّاً بطعم نداء الشهادة. غبطتي احتلّتني: "اللهمّ إن حال بيني وبينه الموت الذي جعلته على عبادك حتماً مقضياً"، واستسلمت. 

•كصبر العبّاس عليه السلام
فائض الصبر تجلّى حين حضرني والدي بعد خروجي من غرفة العمليّات. خمدت نار فؤاده عند سماعه إجابة لتساؤله، شكّلتها بهدوء عينَيه، عندما ردّدت السلام على أبي الفضل العبّاس عليه السلام، فثبّت كفّه الحميمة إلى قلبي وشكر الله. بجانبه أمّي، مَن بكلّ حرفٍ نازفٍ من ثغرها لي جفن. باحتسابٍ استرجعت وبكت لمصاب العقيلة والإمام الحسين عليهما السلام، وعايشت كلّ وصبٍ مسّني طوال الأيّام.

أمطر غيم الوجع صبراً، وهجه قدَّ الأسى بوجود رفاقٍ مكثوا معي في البلاء؛ الشهيد "يوسف رزق" كان مرآتي، لاصق وجعي أيّاماً، وخفّف عنّي. نشاطاته في المشفى شغفت الجميع، خلق فيها بلاداً من الأزهار حرسها بعينه كي نفرح. أمّا الشهيد "علي الهادي وهبة" نهر العطاء، فقد افتداني بكليتَيه بعد شهادته، طالباً منّي بيعهما كي أسدّد دَيني.

•جهادي الأكبر
تابعت دراستي الحوزويّة بعد خروجي من المشفى، وألهمني الله إيجاد خير الدنيا "شريكة الأمنيّات والجوى"، فتزوّجت بها عام ٢٠١٩م، ووهبني الله منها ابنتي الحبيبة "رقيّة". ما زلت أكمل جهادي الأكبر بخدمتي للناس، وهذا أوجب الواجبات. كما أنّني عضوٌ في فرقة جراح الإنشاديّة، أجاهد بالصوت والكلمة. فالحمد لله على نعمةٍ أتاحها لي تلقّفتها بفرحٍ. 

•إشارةٌ وهديّة 
بجفن المسافة بين العناق والرجاء، توسّلت بالآل عليهم السلام ومشيت. اجتزت نصف "طريق المشايّة" وعكّازي معي. تبعتُ بقدمي الوِتر آثار خطوات العقيلة عليها السلام، واسيتها بما خوّلني ربّي، ثمّ أكملت الطريق حيث عبر العطر وما زال على الكرسيّ المتحرّك. حين وصلت إلى الفندق، التقيت بأمٍّ وابنها الشابّ ذي الاحتياجات الخاصّة، كانت تروم اصطحابه للزيارة والعجز يسربلها. اقترحت أن أحمل ابنها معي على الكرسيّ، وتوّجهت إلى الحرم. ازدحام يوم الأربعين صعبٌ تجسيده بالكلمات، لكنّ لطف الإمام الحسين عليه السلام شملنا. كان الزائرون يتهافتون بين أيدينا، ويقدّمون لنا الهدايا، ثمّ يفسحون لنا الطريق حتّى وصلنا إلى الضريح. في اليوم التالي، بعد أن انطلق الزوّار لزيارة الإمام الكاظم عليه السلام، بقيت وحيداً وصدى الغربة عجوزٌ طاف بي. عزمت على التوجّه إلى زيارة الكفيل عليه السلام. غيث السماء صُبَّ فوق رأسي كرحمة الله، فوصلت دون أن تزلَّ قدمي. دخلت المقام الشريف وناجيتُ العبّاس عليه السلام كثيراً. قابلت الشمس خِلسةً بين فتحات الضريح، وطلبت إشارةً أو ربّما هديّةً مميّزةً تدلّني على أنّ زيارتي وجراحي المواسية مقبولة عند المولى عليه السلام. أتممت زيارتي ومضيت. قلبي سماءٌ في تأمّله، والرجاء نظرة. وصلت الفندق في وقتٍ متأخّر. كان الجميع بانتظاري كي نتوجّه إلى النجف. ركبنا في الباص، وقبل الانطلاق، أتى شخصٌ خُيّل لي أنّي رأيته قبلاً، سأل عنّي وأعطاني سبحة صُنِعت من خشب ضريح أبي الفضل العبّاس عليه السلام، فذُهلتُ من حلاوة الجواب وسحر الإشارة! 

•من القلب
إلى الأحبّة جميعاً: قفوا صفّاً واحداً في وجه الطغاة، فإنّ الصبح قريب.

إلى الخواصّ منّا: لا توجعوا قلب صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف بالمعاصي والذنوب. الله الله في الجهادَين والتمسّك بالثقلَين، فمَن لم يتمسّك بالقرآن لم يتمسّك بالإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، ومن اتّخذ من القرآن حياةً، لم يُكتب من الغافلين. وعليكم بخدمة الناس وأداء الواجبات. أدعو الله للمجاهدين بالثبات والنصر. 

وللإخوة الجرحى، مَن على أعتاب جراحهم ينهزم الأفول، أقول: هنا بدأت المسيرة، وهي لم تنتهِ بجراحكم. عليكم بالسبل التي تبرعون فيها، فالجريح ليس رسولاً بسلاحه فقط، وإنّما بجراحه أيضاً.

الجريح: محمّد أحمد دبوق.

الاسم الجهاديّ: أمير.

تاريخ الولادة: 5/5/1993م.

المستوى العلميّ: إجازة في العلوم المخبريّة، مضافاً إلى المستوى الثالث من مرحلة السطوح في الدراسة الحوزويّة.

مكان الإصابة وتاريخها: الزبدانيّ 11/7/2015م.

نوع الإصابة: بتر في اليد اليسرى والساق اليسرى.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع