حوار مع الشيخ معين دقيق
إنّ تاريخ الخامس عشر من شهر شعبان ليس كأيّ يوم عاديّ، بل هو يوم الأمل والبشرى للمستضعفين في العالم، أنّ فجر الحقّ والعدالة سيبزغ يوماً، ولو بعد حين.
انطلاقاً من أهميّة هذا اليوم المبارك، وللوقوف عند بعض العناوين المرتبطة بعصر الغيبة وظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف المبارك، كانت هذه المقابلة التي أجرتها مجلّة بقيّة الله مع سماحة الشيخ معين دقيق.
•أشارت الروايات الشريفة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام إلى علامات تحدث قبل قيام القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف. كيف يمكن فهم هذه العلامات؟ وما هو تكليف الإنسان المؤمن مع إمام زمانه في عصر الغيبة؟
بدايةً، يُسعدني أنْ أكون ضيفاً على هذه المجلّة الكريمة، التي تنشر تعاليم الإسلام الأصيلة، وقِيَمه السامية، كيف لا وهي موسومة باسم مولانا بقيّة الله عجل الله تعالى فرجه الشريف!
لمّا كانت الوظيفة الأساسيّة لعلامات الظهور تكمن في أنّها دلائل تبيّن للناس قرب ظهور الفرج على الأمّة من خلال مجيء تلك الشخصيّة المنتظرة، التي تملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظُلماً وجوراً، وباعتبار أَنَّ كلّ إنسانٍ في عصر الغيبة له وظائف تُجاه إمام زمانه، وتُجاه ظهوره والتمهيد له، فبطبيعة الحال، إنّ التفاعل الإيجابيّ بين الإنسان المؤمن وإمام زمانه، لا بدّ من أنْ يستتبع تفاعلاً كذلك بين الإنسان المؤمن وعلامات الظهور أيضاً.
وأستطيع الإشارة بشكلٍ سريعٍ إِلَى أبرز مقوّمات هذا التفاعل الإيجابيّ، فأقول: كما أَنَّ الاعتقاد بوجود إمام غائب ينتظره المؤمن بفارغ الصبر، يعطيه الأمل والعزيمة، ويدعوه إِلى التمهيد والتهيّؤ، كذلك الحال بالنسبة إلى العلامات الدالّة على قرب ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف، فينبغي أنْ يكون المؤمن مترقّباً لها، ومنتظراً لتحقّقها، فتمدّه بالأمل واستشراف مستقبل حاكميّة الإسلام، وبسط العدالة الإلهيّة على الكون، بعد أنْ تلوّث بظلم البشر وطغيانهم.
ولتوضيح هذه الفكرة أذكر المثال البسيط الآتي: لو أَنَّ إنساناً كان يتنظر نزول ضيفٍ عزيزٍ عليه، ولكنّه لا يعرف وقت ذلك بالتحديد، وكان هناك علائم وأمارات يستطيع أنْ يستشفّ من خلالها قرب وصوله، فنراه يبقى مترقّباً لتلك العلامات، وإذا لاح بعضها في الأُفق، يسارع إِلَى إعداد العدّة لاستقبال ذلك الضيف الكريم. فكذلك الحال بالنسبة إلى علامات الظهور، فعلاقة المؤمن بها علاقة: ترقّبٍ، وانتظارٍ، واستعداد، وتمهيدٍ.
وعلاقة التمهيد مع هذه العلامات تختلف باختلاف نوعها؛ فالعلامات التي تكون من قبيل الظواهر الكونيّة، لا يزيد التمهيد والاستعداد فيها على أصل التمهيد والاستعداد لاستقبال صاحب الطلعة البهيّة بشتّى أنواعه. وبعض العلامات ذات الطابع المرتبط بأفعال البشر، كظاهرة السفيانيّ واليمانيّ؛ فإنّها تحتاج، مضافاً إِلَى التمهيد العامّ للكون في حركة الظهور في معسكر الحقّ، إِلَى دراسة تلك الظاهرة، والبصيرة بها، وإعداد النفس لمواجهتها، أو لتكون من أنصارها.
•تتحدّث روايات أهل البيت عليهم السلام عن صفات أنصار الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف المعنويّة، وقدراتهم العلميّة والعمليّة. هل تقتصر هذه الصفات على الخواصّ من أنصاره فقط، أم أنّها تريد منّا صنع هذا النموذج؟
هناك قراءتان لتفسير تلك الروايات التي تتحدّث عن صفات أنصار الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف:
الأولى: تفسيرها على أساس غيبيّ محض؛ بمعنى أَنَّ أصحاب الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يحصل في حقّهم التدخّل الإلهيّ في صناعتهم وتقويتهم وتهيئتهم ليكونوا في مراتبهم التي رتّبهم الله فيها.
الثانية: تفسيرها على أساس تصميمهم وعزائمهم واختيارهم للسير في طريق التكامل على المستوى المعنويّ والعلميّ، الأمر الَّذِي يوجب بعد ذلك اللطف الإلهيّ في حقّهم.
ولمّا كان الصحيح هو التفسير الثاني، فهذا يعني قهراً أَنَّ مَنْ أراد أنْ يكون من أنصار المهديّ الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف لا يكفي في ذلك النيّة، وانتظار الغيب، بل لا بدّ من الكدّ والسعي والاجتهاد، وهذا هو الانتظار الحقيقيّ، والذي يُعبّر عنه في بعض كلمات العلماء بالانتظار الإيجابيّ.
فالمنتظر لمولاه لا بدّ له من:
أ- التهيُّؤ لاستقباله من خلال تزكية نفسه أوّلاً.
ب- تهيئة الأسباب التي تخوّله أن يكون صلباً قويّاً في مواجهة التحدّيات التي تحصل قبيل ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ثانياً؛ لأنّ المؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف.
ج- تجهيز الأرضيّة المناسبة لصناعة النموذج الصالح في المجتمع المنتظر لقائده ومولاه؛ لأنّ الحركة المهدويّة ليست حركةً وليدة لحظتها، بل هي امتدادٌ لجهودٍ مضنية تقوم بها النخب الصالحة في المجتمع؛ لتهيئة الظروف المناسبة لقطف الثمار الإلهيّة في تلك الحركة المسدّدة.
وهذا الذي ذكرتُه يستفاد من رواياتٍ كثيرةٍ تدلّ على أَنَّ (الأنصار) إِنَّما ينالون تلك الدرجة الرفيعة، أعني: نصرة إمامهم، من خلال تربيتهم لأنفسهم، وسيرهم على هدي القرآن والحديث، فبعض الأحاديث يصفهم بأنَّهم "يفرُّون بدينهم"(1)، وأنّهم "أولياء الله"(2)، وأنّهم من الشيعة الَّذِين "لا تختلف أهواؤهم وإن اختلفت بهم البلدان"(3)، وأنّهم "من أَهل الإخلاص"(4)، والكثير من الأمور التي تدلّ على أَنَّهم يبذلون جهداً للوصول إِلَى تلك المرتبة الرفيعة.
•تحدّثت الروايات عن فتن وابتلاءات كثيرة تصيب المجتمع الإنسانيّ عموماً قبل الظهور، وكذلك عن فتن وتمحيص وابتلاءات تصيب الشيعة أيضاً. كيف يمكن فهم هذه الفتن ضمن دائرة السنن الإلهيّة؟ وما هو ارتباطها بالظهور المبارك؟
ثمّة سنن قرآنيّةٌ ثلاث إذا كانت واضحة عندنا، يتّضح الجواب عن هذا السؤال بسهولة:
الأولى: إِنَّ المطالع في النصوص الدينيّة يجد أَنَّ مشروع (المصلح العالميّ) وفكرة (المهدويّة) تقع ضمن منظومةٍ اعتقاديّةٍ فكريّــةٍ متكامــلة، وليست هي حلقة مستقلّة عن سائر الحلقات الممتدّة من بداية ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30) إِلى زمن ﴿أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105). وحركة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام منذ أن ﴿بَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ (البقرة: 213) كانت لغرض إخراج الناس ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة: 257) و﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، ومن الطبيعيّ أنْ تواجه هذه الحركة الإيمانيّة من قِبَل الطواغيت وأصحاب المصالح التي تقوم على أساس الفوضى والفساد: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ (سبأ: 34).
الثانية: ثمّة ارتباط وثيق بين أفعال العباد وبين عالم التكوين، فبمقدار ما يتدرّج العباد في سلّم التكامل تصاعديّاً ينعكس ذلك على الأرض فـ ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم: 25)، وبمقدار ما يتنزّل الناس من الناحية المعنويّة يُحرمون من النعم الإلهيّة، قال تعالى: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف: 58)، وقال أيضاً: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
الثالثة: إِنَّ البلاء بالنسبة إلى النخب المؤمنة أمرٌ ضروريّ لصقل نفوسهم، وتقوية عزائمهم؛ ليتوجّهوا بعد ذلك بقرارٍ إلهيٍّ حتميّ إِلَى عمارة الأرض، كما يستفاد من قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105).
إذا اتّضحت هذه السنن الثلاث، فيصبح ما تدلّ عليه روايات آخر الزمان من كثرة الفتن والابتلاءات والتمحيص للمؤمنين واقعاً في سياق تلك السنن الإلهيّة التي ذكرتها؛ حيث إِنَّ ظلم البشر لمّا وصل إِلَى حدٍّ أدّى إِلَى تنحية أولياء الله وأوصيائه عن ساحة التصدّي لهداية البشريّة والأخذ بيدها إِلَى شطّ أمانها، فيؤدّي ذلك، لا محالة، إِلَى كثرة الظلم والجور، الأمر الَّذِي يوقع المؤمنين في الشدّة والبلاء، فحينئذٍ: "لَتُغَرْبَلُنَّ كَمَا يُغَرْبَلُ الزُّؤَانُ مِنَ الْقَمْح"(5)؛ ليصل الأمر إِلَى استكمال العدّة المناسبة عدداً ونوعاً؛ لخروج من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً.
•ختاماً، هل من خطوات ينتهجها المنتظر لتقوية معارفه المهدويّة خلال عصر الغيبة؟
يمكن إيجاز خطوات تقوية المعارف المهدويّة عند المؤمنين المنتظرين بثلاث نقاط:
أوّلاً: تقوية البنية العقائديّة للمؤمنين؛ لما عرفنا في الجواب عن السؤال السابق من أَنَّ العقيدة المهدويّة حلقة ضمن حلقات الإيمان، فلا يمكن أنْ نفصلها عن سائر الحلقات، خصوصاً ما يرتبط بمباحث الإمامة. وينفع في هذا المجال ما جاء في تفسير الميزان للعلّامة الطباطبائيّ قدس سره حول الإمامة في القرآن الكريم، كما يفيد في هذا المجال بعض كتابات العلامة الشيخ مصباح اليزديّ رحمه الله.
ثانياً: إِنَّ تقوية المعارف المهدويّة كسائر المعارف الدينيّة، بحاجةٍ إِلَى استعداد وأهليّة إيمانيّةٍ مناسبة، فإنّ المطر إذا هطل على الأودية، فإنّ كلّ وادٍ يأخذ منه بمقدار سعته، قال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ (الرعد: 17). وهذا الأمر لا يتمّ إِلَّا بأنْ يكون الإنسان مهدويّاً في سلوكه وتصرّفاته.
ثالثاً: أمّا ما يرتبط بكسب العلم والتعرّف على المعارف المهدويّة من خلال المطالعة، فما هو أولى من تسمية عناوين الكتب، أنْ يركّز المطالع على المطالعة النوعيّة، التي تحتاج إِلَى أركانٍ ثلاثة:
أ- التدبّر في ما يطالعه.
ب- التدرّج من السهل إِلَى الصعب، ومن المقدّمات إِلَى المطالب الرئيسة.
ج- عرض ما يستنتجه من المطالعة على أهل الاختصاص؛ لأجل تقويمه إنْ كان فيه خطأ أو زلل.
1.الفتن، المروزيّ، ص 41.
2.التشريف بالمنن في التعريف بالفتن (الملاحم والفتن)، ابن طاووس، ص 133.
3.الغيبة، النعمانيّ، ص 211.
4.كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص 378.
5.الغيبة، الطوسيّ، ص 340.