مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

تسابيح جراح: تحت تلّة "البازو"


لقاء مع الجريح المجاهد السيّد علي خليل هاشم (أبو مهدي)


حنان الموسويّ


كانت تجربتي الأولى في الطيران، مسافة ارتجازٍ لم تتعدّ الأمتار العشرة، صولةً قصيرةً على غيمة من غبار ونار، غادرتُ رأسي لكنّي اصطحبت في تحليقي ذراعيَّ وقلبي وكلّي، وساقاً واحدةً مرهقة. تعِبتِ اللغة في حَلقي، وبعزمِ صوتي صحت: "لقد أصابني الحقير". وميض الأضواء التي تموت وتحيا لم يكن يتيح لي رؤية ما يحدث، لكنّ هاجسي هو الحفاظ على المجاهدين. أعيُن أولئك الغرباء الحيارى حملقت بي. طافوا بفوضى المنايا حتّى اكتمل مشهد الوأد، كاحلٌ قد تربّع على أخمص "الكلاشن"، أصابع تطايرت، وربلة ساقٍ فُلقت نصفين، تناثر لحمها، والعظم تمزّق!

•يدُ الله معنا
كان عديدهم وعتادهم يفوق عددنا وتجهيزاتنا بعشرات المرّات، مضافاً إلى "الانغماسيّين"(1) الذين تسبّبوا باستشهاد العديد من شهدائنا بانفجار آليّةٍ قرب دشمهم، وعلى الرغم من ذلك، قد عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم.

كانت مهمّتي كآمر فصيل السيطرة على الساتر الأحمر المشرف على كليّة كتيبة الدفاع الجويّ، التي اتّخذها التكفيريّون قاعدةً لتجهيز الانغماسيّين والأفراد والتشكيلات القتاليّة، واحتلالها. استطلعنا الموقع نهاراً، لا طُرق إمداد لدينا، إمكانيّة المساندة والإخلاء الطبّيّ والدعم معدومة، والمساحة المكشوفة كفيلة بالقضاء علينا!

•كشتاء كانون
أثناء الهجوم، أصيب أحدُ المجاهدين، فطالبتهم بالإخلاء وسحبه حفاظاً على حياته، فاستغرق الأمر حتّى غروب الشمس تقريباً.

أمر القائد الشهيد عباس العاشق بالتزام النقاط والاستعداد. وعلى الرغم من التعب الذي أصاب بعض أفراد الفصيل معي، فقد عصف فيهم إعصار الهمّة، فضّلوا التقدّم لتنفيذ المهمّة على الراحة.

مكثنا قرب دشمة تتّسع لشخصٍ واحد، وكانت الشمس قد طوت يوماً آخر من كتاب العمر، وأذنت بانسدال الليل، ثمّ أدّينا الصلاة بالتتالي، فالقصف كان كشتاء كانون؛ قذائف لا تعرف معنى السكون، شتاء نار دون مطر.

رزقٌ حان قطافه كان غول القلق يقضم أورادي، أحوم على نفسي وكلّ من حولي لاحظ حيرتي، كنت كمن وُعِد برزقٍ وفيرٍ حان قطافه ولمّا يأتِ بعد.

سار الليل بي بلا رئة. أرقب ولادة الشمس مع لسعات البرد المتسلّلة إلى عظمي، وفي أعماقي يتردّدُ صوتٌ أنّي سأعود إلى أهلي، لكن ليس كعادتي. تملّكني اليقين، حتّى إنّني هممت بإخبار مَن حولي بحدسي، لكنّني فضّلتُ الصمت. سرتُ على شكّي وشبح التفاصيل لمّا يزُرني بعد. شعرتُ أنّي سأفقد إحدى ساقيّ. فجأةً، ثَقُل العالمُ على كتفيّ وزاد اضطرابي!

•تحليق الدماء
زرعنا الألغام وجهّزنا قاعدة نار خلفيّة، وطلبت من مسؤول الفصيل الآخر إرسال جرّافة، مضافاً إلى آليّة BMP للإخلاء الطبّيّ، مع قبضة fagot تحسّباً لأيّ طارئ. أرسل لي طلبي مع عبوات مياه؛ لأنّ التي في حوزتنا نفد الماء منها. تدافع الإخوة كلٌّ منهم يريد الذهاب لإحضار الماء، رفضت طلبهم خشية أن يضلّوا طريقهم. توجّهت برفقة أحد المجاهدين لجلب الماء. مشينا تحت تلّة "البازو" والتقينا بقوّةٍ من المجاهدين الأفغان. اقتربنا من عمود الإرسال. خطوت خطوةً.. اثنتين... فجأةً، انفجر لغمٌ وطرت في الهواء وتطاير بعض جسدي. ظننت أنّ الإرهابيّين اكتشفوا أمر القوّة الأفغانيّة، وقاموا بدفاعٍ دائريّ أصِبتُ خلاله.

طلبت من أحد الإخوة الانبطاح والزحف نحو كومة صخور. صحت للمجاهدين أنّي بخير، وطلبت منهم التراجع كي لا يصطادهم الأعداء. وصل المسعف إليَّ، ثمّ نقلني على الحمّالة. وزّعت المهام من جديد. كنت ألهج بأنّ ساقي فداءٌ لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وحاولت بثّ العزيمة من جديد بين المجاهدين، وانطلقنا نحو الإسعاف، ومنها إلى مشفى حلب الجامعيّ.

•جرحٌ وعزاء
عبرنا حدود الخطر على جناح براق. نُقلتُ من مشفى "حلب" إلى مطارها، وبعدها إلى لبنان. أوصلت الخبر إلى زوجتي. تواصلت معي لتتأكّد أنّ النبض لم يفارقني، وأنّي مصاب فقط، فطمأنتها وأخبرتها أنّي سأعود. والدي صاحب الباع الطويل في الجهاد تقبّل الخبر، أمّا والدتي فأحببتُ إخبارها بنفسي، وكونها قارئة عزاء، فقد حزمت حقيبة أوجاعها وتلقّفت المصاب باحتساب. وصلت إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. آليت على نفسي أن أخفّف عن الجميع ثقل الواقع، وأن أقتل الوجع بابتسامة. لم أشعر أنّي جريح كسير إلّا عندما علمتُ باستشهاد رفيقي جعفر حميّة.

•"من لزمنا لزمناه"
بعد إصابتي، أعطاني الله إرادة مدموجة بالإصرار والعزيمة؛ فحين يصابُ جنديّ من جنود العدوّ الإسرائيليّ أو من قوّات المارينز مثلاً، تبدأ معاناته النفسيّة، وغالباً ما تنتهي بالانتحار، بينما جرحانا روّضوا جماجمهم على انفجارات الدمع والمدافع، تزورهم دهشة المأساة فيطردونها، فيبقى أثرها عطراً يسيل في نفوس من حولهم. نجد الجريح وقد بُتِرت يده يتابع عمله بإتقانٍ وتفانٍ، وآخر أصيب في عينيه، نجده يتّكئ على كتف أحد إخوانه، يجدُّ السير ليشارك في عزاء لأهل البيت عليهم السلام، شوق عينَيه الطاعن في الجرح تفضحه الدموع. وآخر خلّف في الرمل بعض أعضائه، وآثار الدم الغريب العنيد ما زالت تنبض رافضةً الاستكانة، نجده يلحّ على قيادته متابعة عمله بساقٍ واحدة. أمّا أنا، فقد حرصت على أن أركّب الطرف الصناعيّ تحت تلّة "البازو"، المكان الذي هجرتني ساقي فيه، وهذا ما حدث بعد الخضوع لخمس عمليّات جراحيّة.

أنا على يقين من أنّ الله لم يسلبني جزءاً من جسدي ليجعلني معوّقاً، بل عوّضني بالإرادة والعزم، وهبني اليقين والتسليم المطلق له، والالتصاق بأهل البيت عليهم السلام، فأسرارهم تقول: "من لزِمَنا لزمناه".

•رسالة خُطّت بالدم
تكليفي بعد الإصابة هو الإحسان والتقوى، كما يقول الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 172). عليّ أن أخرج أمام الناس بجراحي ليروا صبري وثباتي، فأكون قدوةً لهم.

رسالتي خطّها مَن سبقني بأرجوان خضاب نحره قبل المغيب، إذ أطلب من أخواتي العزيزات الالتزام بالستر والحجاب الحقيقيّ وضرورة التمسّك به؛ فغداً هناك مناظرة بينهنّ وبين أمّهات الشهداء، اللواتي قدّمن أولادهنّ فداءً لذاك الحجاب، لذلك أسألهنّ: هل حافظتنَّ على أصالته؟


•هويّة الجريح
الاسم: السيّد علي خليل هاشم.

الاسم الجهادي: أبو مهدي.

تاريخ الولادة: 20/10/1998م.

مكان الإصابة وتاريخها: حلب- سوريا 22/10/2016م.

نوع الإصابة: بتر الساق اليمنى.
 

1.الانغماسيّ: عنصر من التكفيريّين مؤهّل للقتال حتّى الموت، يُسند إليه عمليّات الاقتحام والتوغّل، وقد يُقرّر تفجير نفسه إذا ما حُوصر.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع