بقلم: أكبر خليلي
طلع الفجر، صباح ذات يوم من كانون الأول، ووصل نوره الأحمر البرتقالي من بين أشجار الصنوبر الصغيرة إلى القبور الحاضنة للشهداء، ومع وصول أشعة الشمس تحول الندى على القبور إلى حبيبات الماء، وها هي السيدة كوكب بحذائها المطاطي تتقدم ببطء على أرض المقبرة الموحلة.
لم يكن قد تبقى الكثير حتى تصل إلى القطعة رقم 17، عندما علق حذاؤها بالوحل ولم تستطع إخراجه، فما كان منها إلا أن خلعته وعقدت شادورها على خصرها وتابعته المسير بقدمين حافيين على حافة المعبر المغطى بالثلج، تبللت جواربها، فنظرت يميناً وشمالاً وعندما لم تجد أحداً خلعتهما وأكملت المشي نحو القطعة رقم 17، تأملت قليلاً في السماء الغائمة فعادت بها الذاكرة إلى ابنتها زهراء.
عندما كانت زهراء صغيرة في سن الحادية عشرة كانت تقول: ماما انظري إلى السماء وقولي أهناك غيم أم لا؟ طفله! لا تعرف ما هو لون السماء عندما تكون غائمة، أما الآن ما شاء الله كبرت وعمرها 19 سنة، وتفهم كل شيء، فهي في الطبخ أفضل مني وقد درست حتى الصف الثاني عشر..
ما شاء الله .. محظوظ من يرى وجهها الجميل، كالحورية كانت، كوردة الربيع. روحي فداها، كانت تسألني عندما كانت صغيرة: ماما، إذا مت إلى أين أذهب؟ وكنت أقول: ماما أولاً لا قدر الله أن تموتي، ولكن إذا مات الطفل فيذهب إلى الله، مراتٍ عديدة رأيتها عند موت أبيها تنظر إلى السماء وعندما تراني كانت تقول: ماما، أبي الآن عند الله وأنا أحب أن أذهب إلى أبي. فكنت أقول لها: عزيزتي لا تتفوهي بهذا مرة ثانية، أنا أريدك أن تكبري وتصبحي عروساً.. أريد أن ألبسك في عرسك فستاناً أبيضاً طويلاً، وأضع على رأسك تاجاً من الورد، وتعيش العائلة والأقارب في سرور، وعندها سيمتلئ قلبي فرحاً بك.
لم تخرج البسمة بعد عن شفتي السيدة كوكب حتى وصلت إلى القطعة 17، هوى قلبها والكلمة علقت في فمها، وجلست ساكتةٌ على قبرٍ باردٍ أبيض من الثلج، والدموع تنهمر من عينيها قطرة قطرة، وقد فقدت الإحساس في قدميها وتأملت في عباءتها الملونة بالوحل والطين، وبعد هنيهةً خرجت من أفكارها على صوت عابرٍ فلفت وجمعت العباءة حول قدميها وليست الجوارب وقامت منتفضة وتابعت البحث عن فلذات أكبادها تحت الثلج.
الساعة أصبحت الثامنة صباحاً وحرارة الشمس بدأت بالوصول فذاب الثلج عن القبور.. وجلست كوكب المسكينة على القبور الثلاثة تمسح الماء عنها وتبكي باسطة يديها على قرين ورأسها على القبر الأوسط تهزه يميناً وشمالاً وتنادي:
"عباس، عباس، قم يا حبيبي أنا أمك، لقد نمت طويلاً، ألا تريد أن تذهب إلى العمل.. قم يا حبيبي، لعل أخويك النائمين جنبك يقومان معك ويذهبا إلى المدرسة..، تأخرت يا رضا، قم يا حبيبي، ما هذا النوم الثقيل..، زهراء، يا نور عيني قومي، أصبحت الساعة السابعة لتقومي وتغسلي وجهك وتشربني الشاي، بعد قليل يحين موعد ذهابك إلى المدرسة...".
سكتت قليلاً، وغاصت إلى أعماقها، ولم تعد تشعر بشيء، حتى صوت قلبها لم تعد تسمعه.. حبست أنفاسها في صدرها وبقيت جالسةً كصخرة دون أي حراك.
اهتزت أغصان الصنوبر مع طلوع النسيم الذي بدأ يلاطفها، فاستيقظت والدموع في عينيها، بسطت يديها على قبر رضا وبقشعريرة الحزن تذكرت قطعة القماش الأبيض الملطخ بالدم الأحمر الفاني التي غطت جزءً من جثمان رضا أثناء تشييعه، وكان مكتوباً عليها (حرب فقط حزب الله)، نعم أنها القطعة التي خاطها رضا بنفسه مع أخته زهراء في آخر ليلة، وتذكرت ماذا قال رضا لأخته: "غداً سأذهب بهذه الراية من القماش وسأحارب الأعداء".
وكان جواب أمه: "حبيبي ماذا تقول، وكيف تستطيع أن تقاتل أعدائك بهذه القطعة من القماش وهم يملكون المدافع والدبابات".. روحي فداء، كان دائماً يمازحني، فقال حينها: "سترين يا أمي غداً".
يا حبيبي، ما أطيبه، مع أنه كان الأصغر بين أخوته، كان دائماً يلامس رأسه برأسي ويقول: "لا أريدك يا أمي أن تحزني وتكوني مهمومة يجب أن تكوني دائماً فرحة".
كان ابني رضا بشوشاً، ضحوكاً، مشاغباً، كان يقلب البيت رأساً على عقب يضحك الجميع وأينما كان تكون الحياة والمرج.
كانت شفتاه كزهرة الزمان الحمراء، ولكنه في أيامه الأخيرة كان هادئاً، يأتي إلى البيت ساكناً يخرج عدة أوراق من جيبه ويخبئها في المنزل ولم أكن أدري أين، ولكني قلت له ذات مرةٍ: "رضا يا حبيبي، لا تأتي بالإعلاميات والمنشورات إلى البيت، فنحن مساكين ولا دخل لنا بذلك... كان لا يجيبني ولكنه يذهب ويجلس وحيداً ويفكر.
وقد حاولت كثيراً أن أقنع أولادي أن لا يذهبوا إلى المظاهرات، فلم ينفعهم كلامي. حتى أن زهراء ذهبت واشترت حذاءٌ يشبه الحذاء العسكري، وكان لبسه ممنوعاً ولكنها لبسته وخرجت إلى المظاهرة وهي تقول في "أريد أن أذهب للحرب".
وعباس أيضاً، كان يؤلمني أكثر من الاثنين، ولكنه كان سيداً، شاباً مؤدباً، جدياً وفوراً. فقد تكفل بأمور المعاش بعد وفاة والده وأصبح المعيل الوحيد لنا. ومع أنه كبر، وأنا أصرّ عليه كثيراً أن يتزوج ابنة خالته التي يحبها، لكنه لم يقبل، وكان جوابه دائماً: "لن أتزوج حتى يكبر رضا وزهراء ويكملا تعليمهما".
بارك الله فيك يابني، أرأيت يا أمي ماذا حصل لك.. قتلني الله ليس لي معيل، والليالي طويلة هذه الأيام يا حبيبي، ومهما جلست فالصبح بعيد، ومهما نظرت في النافذة لعل أحداً يأتي فلا فائدة.. أنت الذي كنت تطرق الباب وتقول: "أمي افتحي أنا عباس، قد أتيت".
عزيزي عباس أنت كنت تقول "أريد أقدم بحراً من الدماء" وقد قدمت يا حبيبي.
عندما كنتُ أقول لعباس: امنع رضا من هذه الأعمال الانتحارية، كان يجيبني بحزم: "أمي لا، لا يمكنك أن تمنعي رضا وزهراء، عن هذه الأعمال، ويجب من الآن أن تجهزي نفسك لموت أحدنا أو جميعنا، أمي أنا لست ممن يجلس في البيت ويرى أخواته وأخواته يجاهدون إذا أحضر رضا المنشورات فدعيه يأتي بها، ولكل منا دور في هذه الثورة.
أمي، حتى أنت إذا قرأت إحدى هذه المنشورات فستجدين نفسك من عشاق الشهادة. عندما يقول الإمام: (أحبائي لا تخافوا، ولن يقدر أحد على إخافتكم) الدم يغلي في عروقي وأحس أنها ستفجر من هذا الدم المتلهب وأشعر بالحاجة إلى أن أرمي نفسي تحت الدبابات لتسحقني فينفجر دمي الحار في وجوه هؤلاء الأنذال الخبثاء، عديمي الشرف والإحساس.. أحس يا أمي أنني مليء بالدم وسأغرق أعدائي بدمي، ولا يمكن أبداً أن أقف في وجه رضا، اتركيه يا أمي ليكون لنا شرك في هذه الثورة.
سكتت السيدة كوكب لبعض الوقت، تهز وتلوي برأسها وتحدث نفسها وتقول: "نعم يا أمي سهمي كان ثلاثة".. ورفعت رأسها وهي تخاطب الله سبحانه وتعالى: "يا الله، لماذا حصني كانت كبيرة ألم تر كيف ربيتهم... مع الخبز والشاي... ألم تر يا إلهي عمل عباس... ألم تر أنني أفنيت عمري أكدُّ وأعمل حتى أوصلتهم إلى هذا العمر والسن.. لماذا كان علي أن أدفع الثلاثة، أين عدلك أين يا الله...
حنت رأسها نحو القبور والتهبت نيران داخلها، أخذت تلطخ وجهها بالتراب وصرخت صرخة أفقدتها وعيها، وارتمت على القبور.
وبعد عدة دقائق استفاقت فجلست ورفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: "أستغفر الله، أستغفر الله فقد كفرت يا إلهي، اغفر لي يا رب، لا أعرف، إذا كنت كفرت اغفر لي يا الله، إلهي قلبي محترق، إني أحب هؤلاء الأولاد كثيراً، فقد أتاني رضا في منتصف إحدى الليالي، وقف فوق رأسي وضمني إليه، قلت له: اخجل يا رضا فقد أصبحت كبيراً، قال: "أمي، أريد أن أنام معك الليلة".
قلت: حبيبي، لماذا نفعل هكذا هل سيحدث شيء غداً؟
قال: "لا يا أمي، لن يحصل شيء، ولكني رأيت حلماً فطار النوم من عيني".
قلت: "خير إن شاء الله يا حبيبي، ماذا رأيت".
قال: "حلمتُ أني واقفٌ على تلةٍ مشرفة على صحراء رملية، وفي وسط الصحراء توجد شجرة يابسة، ورأيت فارساً متجهاً نحوي وعلى خصره حزام أخضر ويمتطي جواداً أبيض، لم أر وجهه لأنه كان محاطاً بشيء يشبه الغيمة، وعندما وصل إلى الشجرة اليابسة نزل من على ظهر فرسه، وأشار بيده إلى الأرض اليابسة، فأحسست أنه الإمام الحسين عليه السلام وهو يقول لي: "إن هذه الشجرة يجب أن تكون خضراء".. فاستيقظت عندها من النوم ولم تغمض عيني بعد ذلك ولهذا أتيت لأنام معك".
قلت له: "اذهب ونم يا حبيبي خير إن شاء الله، أنا لا أستطيع أن أفسر المنام لك".
قال: "لا، أريد أن أبقى معك حتى الصباح يا أمي".
نظرت المسكينة كوكب فرأت ازدياد الناس حولها شيئاً فشيئاً وها هي الأكاليل توضع على القبور، وأصوات البكاء ضاعت بين صرخات "الله أكبر" التي تنطلق من أفواه الشباب الذين أتوا لتشييع أحد الشهداء، ووقع نظر كوكب على فتى في الثالثة عشر من عمره يشبه رضا كثيراً، فأدارت وجهها نحو قبر رضا ومسحته بخرقة من ثيابها، وأخذت تحدثه: "ولدي، يا حبيبي، هل نسيت؟ كنت دائماً تعترض على ثيابك؟ إذا كانت متسخة قليلاً كنت تنزعج من ذلك، واليوم يجب أن تكون نظيفاً، الإنسان عندما يصبح شهيداً يجب أن يكون نظيفاً أولاً، وأنت كنت كذلك، فقبل ذهابك إلى المسيرة التي استشهدت فيها اغتسلت غسل الشهادة إلهي روحي فداه، روحي فداه لأخلاقه الحسنة، يا حبيبي ونور عيني.
في هذه اللحظات تحلق بعض الشباب حول السيدة كوكب وراحوا ينظرون إليها نظراتٍ خفية ويمسحون دموعهم "السلام عليك يا أم المجاهدين".
رفعت كوكب رأسها ونظرت إليهم فأحسنت بالفخر والسرور واختلطت الهموم وضاعت، وبدأ الشعار يصدح في أذنها:
"رضا، رضا، سنتابع المسير". ردده الجميع ولم تستطع كوكب أن تشكر كل هذه المحبة التي أولوها إياها وشعرت أن الشرايين في يدها تورمت فتسارعت ضربات قلبها وأحست بضغطٍ شديد على كل أجزاء جسمها وعند سماعها شعار "أخي أيها الشهيد سنتابع طريقك" أحسنت أن بحراً من الدماء يغلي في بدنها، وبأمواجه ستغرق بهشت زهراء كلها.
أحسنت برائحة الدم الزكية الحارة، فوقفت رافعةً يديها إلى السماء وصرخت: "عزيزي خميني، مرني لأنثر دمي".
أيلول سنة 1979