الشيخ حسن أحمد الهادي*
يطلق القلب على معنيين: الأول، على القلب الصنوبري المودع في صدر الإنسان، والمعنى الثاني على أنه لطيفة ربّانية روحانيّة لها مع القلب الجسماني تعلّق، ويعبّر عنها بالقلب تارة، وبالنفس أخرى، وبالروح ثالثة... وبالإنسان أيضاً. وهي المدرِك، العالِم، العارِف، وهي المخاطَب والمعاتَب ولها علاقة مع القلب الجسدي...
*القلب الباطني
قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46)
1. ويفهم من كلام العلامة الطباطبائي قدس سره في تفسير الميزان أنّ المراد بالقلب هو الإنسان بمعنى النفس والروح نظير قوله تعالى:
﴿يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ (البقرة: 225)
و﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: 283)2.
وعلى هذا فالمقصود من القلب في هذه الآيات هو القلب الباطني، ويعبّر عنه باللبّ، والعقل، والفؤاد، والروح، والنفس، ومقرّ اليقين، ومدرك المعاني، وملك البدن والذي إذا صلح صلح البدن كلُّه، وإذا فسد فسد البدن كلُّه 3 كما جاء في العديد من الأخبار. وهو كالبحر العميق الذي ترتبط به روافد تلتقي كلّها في مركز القلب. وإن ما نسمّيه نحن بالروح ما هو إلا الأنهر والروافد التي تتصل بهذا البحر، وكذا مثل الخوف والرجاء والحب4...
*أصناف القلوب
القلب - في نظر القرآن - أداة من أدوات المعرفة. فالقرآن في معظم رسالته يخاطب القلب. وأذن القلب وحدها تستطيع سماع رسالة السماء، لذلك عُنِيَ القرآن بتعهّد هذه الأداة وتربيتها وهو ما نفهمه من الآيات الكثيرة التي تحدّثت عن نور القلب وصفته وسلامته 5...
ولأنّنا لا نستطيع تفصيل هذه الأصناف الكثيرة وما يترتّب عليها سنكتفي بجمع أهم مصاديقها تحت عنوانين كلّيين جامعين لأهم أصناف القلوب التي ذكرت في القرآن والسنة، وهما: القلب الممدوح والقلب المذموم، على أن ندرج تحت كل منها بعض مصاديقه بذكر خصائصه وما ينعكس منه على مستوى النيّة والعمل.
أولاً: القلوب الممدوحة
القلب وأقسامه: البصير، الحكيم، الرقيق، المُقبِل على الخير، المُطهَّر من الذنوب، الموصوف في الروايات بأنّه بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم 6، والذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه آنية الله في الأرض بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ لله تعالى في الأرض أواني، ألا وهي القلوب، فأحبّها إلى الله، أرقّها، وأصفاها، وأصلبها: أرقّها للإخوان، وأصفاها من الذنوب، وأصلبها في ذات الله"7.
ويندرج تحت هذا الصنف أنواع عديدة من القلوب منها:
1 - القلب السليم: وهو القلب الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه، والذي يحمل ديناً بلا شك ولا هوى، وعملاً بلا رياء. ومن أهم خصائصه أنّ المولى عزَّ وجلّ قد رتّب الجزاء والنفع عليه يوم القيامة بقوله تعالى:
﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 87-89) وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الصافات: 83 - 84).
فصاحب القلب السليم هو صاحب النية الصادقة الذي يخلص لله تعالى في الأمور كلّها.
2 - القلب المطمئن: وهو القلب الذي يعيش حالة التسليم والرضا الحاصِلَين بسبب اليقين بالعقائد الحقّة. وهذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصير على القرب معموراً بالمنجيات من الشكر والصبر والخوف والرجاء، ومن أهم خصائصه أنّه قلب يطمئنّ بذكر الله تعالى
﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).
3 - القلب اللّين: وهو القلب الذي يحيا بالموعظة. ومن خصائصه العملية الإكثار من التفكّر والبكاء من خشية الله تعالى، فيتّعظ بذكر الموت وفجائع الدنيا وبلاءاتها، ما ينعكس خشوعاً ولذةً في العبادة وأنساً في محضر المعبود ولا سيما في الخلوات. روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "تعرّض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات" 8. هذا إضافة إلى الرغبة الشديدة والأنس في خدمة العباد، ولهذا نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما شكا إليه رجل قساوة قلبه قال له: "إذا أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم"9.
4 - القلب المنشرح: الشرح بمعنى البسط، ويقابله الضيق (الانقباض) وهما حالتان تتواردان على الصدور والقلوب، ففي الحالة الأولى تتّسع الصدور والقلوب، فتزخر بالمعرفة والنور واليقين، وتتحمّل من الابتلاءات والمصائب ما لا يتحمّله إنسان عادة. وفي الحالة الثانية تضيق القلوب والصدور حتى لا تكاد تحمل شيئاً من المعرفة واليقين، فضلاً عن الابتلاءات والمصائب. وهاتان الحركتان من الشرح والضيق تتواردان على حركة الإنسان ومساره إلى الله تعالى على المستويين المعرفي والعملي، وهو ما تجسّد في قصة موسى عليه السلام عندما أمره الله تعالى بدعوة فرعون، فدعا ربه أن يشرح صدره، قال تعالى:
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ (طه: 24 - 25). وشرح الصدر هنا في مواجهة الابتلاء والمعاناة والصراع المرير الذي يواجهه عليه السلام في دعوة فرعون وقومه إلى الله تعالى. ويتضح المقصود من هذا النوع من القلوب في قوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام: 125).
روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شرح الصدر ما هو؟ قال: "نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له صدره وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت"10.
ثانياً: القلوب المذمومة
عندما نتأمّل في آيات الكتاب العزيز نجد أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن أصناف من القلوب المذمومة بذكر أوصاف أصحابها أو الآثار التي تنتج عنها كالنفاق والكفر ونحوه، ومن هذه القلوب: القلوب الزائغة، القلوب القاسية، القلوب المريضة، القلب الأعمى...
وفيما يلي إشارة إلى أهم الآثار العملية التي تنتج عن هذه القلوب:
1 - القلب المريض: الظاهر أنّ مرض القلب في عرف القرآن هو الشك والريب المستولي على إدراك الإنسان فيما يتعلّق بالله وآياته. فالذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان الذين يصغون إلى كل ناعق، ويميلون مع كل ريح... وهو اختلاط من الإيمان بالشرك، ولذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال، ويصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال والأفعال ما يناسب الكفر بالله وبآياته. قال تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ (البقرة: 10). وقد ذكر أهل بيت العصمة عليهم السلام العديد من الأسباب التي تؤدّي إلى ما يمرّض القلب، يمكن ردّها جميعاَ إلى الذنب والخطيئة، روي عن الإمام علي عليه السلام قوله: "لا وجع أوجع للقلوب من الذنوب"11. وإنّ الخطيئة تفسد القلب كما روي عن الإمام الباقر عليه السلام : "ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة، إنّ القلب ليواقع الخطيئة، فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله" 12.
2 - القلب القاسي: المعلوم أنّ كثرة الذنوب تؤدّي إلى قسوة القلب، "وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب"13 كما ورد عن أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وروي عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: "... وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب"14. ومن أبرز الآثار السلبية الناتجة عن قسوة القلب أنّه يبعّد عن الله تعالى، بل إنّ أبعد الناس من الله صاحب القلب القاسي كما ورد في العديد من الروايات، ولهذا تغزو الذنوب القلب فتقلّ العبادة، ويهيمن طول الأمل على الإنسان فينسى ربّه، قال تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ (البقرة: 74).
3 - القلب المطبوع: قال عزَّ وجلّ: ﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ﴾ (البقرة: 7).
الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "الطابع معلّق بقائمة العرش، فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله بعث الله الطابع فيطبع الله على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئاً"15. وبهذا تتّضح الآثار الناتجة عن طبع القلوب وختمها وأهمها تعلّق القلوب بشهوات الدنيا وإدبار القلب عن عبادة الله وطاعته.
*وفي الختام
بعد هذه الجولة الموجزة في رحاب القلوب لا بد من نصيحة موجزة خلاصتها أنّه:
لا بد للإنسان من السعي الدائم لإحياء القلوب بالموعظة والتفكّر، فإنّ الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر، وهو ما أوصى لقمان به ابنه وهو يعظه، ولا بد أيضاً من العمل الدؤوب لإعمار القلب بالمعرفة، فإنّ "لقاء أهل المعرفة عمارة القلوب ومستفاد الحكمة"16، و"عمارة القلوب في معاشرة ذوي العقول"17 كما ورد عن الإمام علي عليه السلام. وبهذا يصبح القلب رقيقاً ليّناً حيّاً منوّراً بنور الحكمة، يعيش الاستغفار والاشتغال بذكر الله ويأنس بعبادته وطاعته، ويكون مصداقاً لقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 57). روي عن الإمام علي عليه السلام: "إنّ تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم (أجسامكم)، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا (غشاء) أبصاركم"18.
* مدير التحرير المسؤول في مجلة الحياة الطيبة التخصّصية.
1- أسرار الصلاة، الشهيد الثاني، ص103.
2- الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي، ج2 ص225.
3- تفسير الصراط المستقيم، البروجردي، ج4 ص242.
4- معرفة القرآن، الشهيد مرتضى مطهري، ص88.
5- يراجع: آل عمران: 8، المطفّفين: 14، الصف: 5، البقرة: 7، الأنعام: 25، الأعراف: 101 والحديد: 16.
6- علل الشرائع، الصدوق، ج1 ص109.
7- م.ن، ص243.
8- تحف العقول، ابن شعبة، ص285.
9- مشكاة الأنوار، الطبرسي، ص292.
10- مجمع البيان، الطبرسي، ج4 ص561.
11- الميزان في تفسير القرآن، م.س، ج5 ص378.
12- الكافي، الكليني، ج2 ص300.
13- م.ن، ص268.
14- علل الشرائع، م.س، ج1 ص81.
15- تحف العقول، ص283.
16- عيون الحكم والمواعظ، عليّ بن محمد الليثي الواسطي، ص419.
17- نهج البلاغة، الخطبة 198 و109.
18- نهج البلاغة، خطبة 198.