(الشيخ راغب حرب في ذكريات أيتام المبرّة)
هلا ضاهر
أنهت "زهراء" التحضيرات، بعدما وضعت على المنصّة أربعين شمعة ملفوفة بشريط فستقيّ اللون، وأربعين زهرة أقحوانيّة في سلّة قشّ.
نظرت "زهراء" إلى الساعة المثبّتة على الحائط، لم يبق إلّا سويعات قليلة ويحضر الجميع. كان نبض قلبها المتسارع يسابق عقارب الساعة، فيعيدها إلى تلك الأيّام الخوالي بين الفينة والأخرى، إلى باحة المبرّة، حيث وقفت بقرب شجرة النخيل العملاقة تراقب رفاقها يلهون ويلعبون، وهي وحدها تخلّت عن اللعب، وهربت إلى زاوية منعزلة، تجالس الأرض الخرساء، وتبحث عن إجابات لأسئلتها الحيرى، ولا تجد جواباً يروي عطش طفولتها البريئة، ويفسّر لها سبب يتمها..!
لكنّها اعتادت على شخص يزورها يوميّاً، يربّت على رأسها، ويهزّ بأنامله خصلات شعرها مداعباً، وهي تأنس بلمساته الحنونة، وتتطلّع إلى شلّال الرحمة المتدفّق من عينيه، فتأخذ من حنانه بلسماً تداوي به كلّ ما خطّته يد الزمان على أيّامها البائسة.
أعادها إلى الواقع صوتُ طرقٍ على الباب. ها قد وصل أصدقاؤها ليبدأوا الاحتفال.. بعد ساعة تقريباً وصل عددهم إلى العشرين شخصاً ممّن ترعرعوا في تلك المبرّة مع "زهراء".. وكان الهمس يدور في كلّ زاوية من زوايا الغرفة؛ لأنّها كتمت الخبر عنهم، ولم تفصح عن سبب دعوتهم.. وكان كلّ منهم ينتظر منها بشوق الإعلان عن مفاجأتها لهم..
في اللحظة المناسبة تقدّمت "زهراء" إلى الأمام، ووقفت لتقول شيئاً مهمّاً: "هل تذكرون ماذا حدث في مثل هذا اليوم؟".
راح الجميع ينظرون إلى بعضهم بعضاً حيارى، وكلّ منهم يحاول التذكّر.. قال مهدي:
- "أذكر أنّه يوم تخرّجك من الجامعة، أليس كذلك؟!".
- "بالفعل، في مثل هذا اليوم نلت شهادة الإجازة الجامعيّة، ولكن أيضاً في مثل هذا اليوم وقع حدث ألمّ بنا جميعاً".
ترقرقت الدموع في عيون الحاضرين جميعاً، واختفت الابتسامات عن معالم الوجوه الشابّة. الجميع أدرك ما تضمره "زهراء" في هذا التلميح، وقد انتبهت إلى فطنتهم، فقالت لهم:
- "سأخبركم قصّة لا تفارق ذاكرتي، أرويها لأوّل مرّة.
في الثامن والعشرين من شهر آذار، في العام 1982م، في تمام الساعة الواحدة ليلاً، وبينما كنتُ مستلقيةً في فراشي، أراقب من نافذة غرفتي في المبرّة التي تقع على سفح منحدر -كما تعلمون- روعة النجوم المتلألئة ببريقها في السماء، قفزتُ مرتعبةً بعدما أحسستُ بالأرض تموج من تحتي، وأضاءت النيران ظلمة المكان، وسمعتُ صوت طلقات رصاص كثيفة تصيب جدران المبرّة من الاتّجاهات كافّة، فاختبأتُ خلف الستارة بحثاً عن الأمان.. لا أدري ماذا أفعل، ولم أجرؤ على النظر من النافذة مجدّداً.. وما زاد خوفي أنّي كنت وحدي في الغرفة، يومها كنتُ مريضة بالجدري، فعزلوني كي لا أنقل العدوى لبقيّة الأطفال.
كم من الوقت مرّ عليَّ، وأنا في مثل هذه الحال؟! لست أدري! ولكنّ الهدوء عاد إلى المبرّة، بعد فترةٍ وجيزة.. غير أنّني بقيتُ في مخبئي، ولم أجرؤ على الخروج منه. وتناهت إلى سمعي كلمات مبعثرة (إنّها دوريّة للعدوّ الإسرائيليّ)، (لقد أطلقوا النيران في كلّ اتجاه)، (أصابوا جدران الباحة.. أصابوا البوّابة الرئيسيّة). ولكنّي كنتُ أنتبه إلى صوت زجاج يتحطّم، ورحتُ أتساءل: ترى ماذا حلّ بصديقاتي وأصدقائي الأيتام؟!
حتماً الأساتذة والمربّون سيدخلون إلى الغرف للاطمئنان علينا. اعتقادي هذا جعل الخوف ينسحب تدريجيّاً من داخلي، وأبطأ دقّات قلبي. اقتربتُ من النافذة لأُلقي نظرةً على الخارج، فرأيتُ ظلّاً لجسد ينسلّ بين الأشجار. شاهدته يمشي حذراً، ليدخل من الممرّ الخلفيّ. وكانت خطواته تُصدر صوت طقطقة خفيفة، ثمّ دلف إلى باحة المبرّة، فأسرعتُ بالعودة إلى الاختباء، ولكن هذه المرّة تحت السرير، والخوف يجتاح قلبي: ماذا لو كان هذا وحشاً من جنود العدوّ الإسرائيليّ؟! هذا الوحش الذي يقتات على جثث الأطفال؟!
وما هي إلّا هنيهة حتّى سمعت صوتاً يناديني: (زهراء.. زهراء أين أنت؟!).
هذا الصوت! يا إلهي، هذا الصوت أعرفه جيّداً. إنّه صاحب اليد التي تُربِّت على رأسي. أخذتُ أرتفع قليلاً قليلاً علّني أدركه قبل أن يفقد الأمل من إيجادي. وأسرعتُ نحو الصوت. دمعت عيناي عندما رأيته. أحسستُ بالفرج الذي أرسله الله لي في هذه اللحظات المرعبة من حياتي. ركضتُ إلى حضنه وأنا أصرخ: شيخ راغب. أنا هنا. أنا هنا. فتح ذراعيه والتقطني فرحاً.
وما هي إلّا دقائق بعد نزولنا إلى ساحة الملعب الأرضيّ حتّى بدأ الأطفال يتحلّقون حول الشيخ راغب. أحسستُ بجناحيه يرفرفان فوق رؤوس الأيتام، وهو يوزّع ابتساماته المشرقة عليهم. كان يرتدي "دشداشته" (عباءته) البيضاء، ولكن هذه المرّة من دون عمامة. كانوا يمسكون بيديه، وبعضهم كان يغمره من الخلف، وآخرون يمسكونه من ساقيه، وكلّ واحد منهم يحاول إخباره بما اعتراه من خوف. أمّا هو فكان متحيّراً رأسَ مَن ومَن يمسح، وراح يخبرهم كيف سمع بخبر الاعتداء الإسرائيليّ على المبرّة، وكيف تسلّل من الباب الخلفيّ تحسّباً لأيّ طارئ. بينما أنا واقفة بعيدة بعض الشيء، وكنتُ أعدّهم واحداً واحداً. أربعون يتيماً. حفظتُ وجوههم، وقرّرت أن أصبح أختاً وصديقةً لهم جميعاً. كنتم أنتم.
أخبرنا أنّ سبب اعتدائهم هذا هو غيظهم من مجاهدي المقاومة الذين نصبوا كميناً لدوريّة لهم في الموقع المطلّ على القرية، وأصابوا منهم عدداً. أخذ بيدي؛ لأنّي كنت أصغركم، وأصعدنا إلى سطح المبرّة، وقال لنا:
- (انظروا.. هل ترون الدخان المتصاعد هناك؟).
وأومأ الجميع برأسه. وتابع يقول:
- (عندما تكبرون أنتم.. سيكون هذا العدوّ قد اندحر عن أرضنا)".
بعدما انتهت "زهراء" من قصّتها، نظرت إلى رفاقها، رأت الدموع في عيونهم، وهم صامتون تأخذهم رهبة الذكرى. بدأت بإشعال الشموع، وطلبت أن يأخذ كلّ واحد منهم شمعته. وبقيت عشرون شمعة متراصّةً قرب بعضها بعضاً. غصّت "زهراء" بدموعها، عندما أشارت إلى عشرين شمعة لم يحملها أحد، وقالت:
- "عشرون واحداً منّا قضى شهيداً تحت راية شيخ الشهداء، الشيخ راغب حرب. نحن أكملنا درب العلم والمعرفة، وهم اختاروا طريقاً أقصر للالتحاق به".
تقدّم الجميع من "زهراء" التي كانت واقفة في منتصف الغرفة، وأحاطوا بها من كلّ جانب. اقتربت صديقاتها وحضنّها وهنّ يكفكن دموعها، بينما كان الأصدقاء الشبّان يردّدون: "كلّنا الشيخ راغب حرب.. كلّنا الشيخ راغب".