نسرين إدريس
اسم الأم: سميرة دلكادو رزق
محل وتاريخ الولادة: مشغرة 1- 1- 1976
الجنسية: كوبية
الوضع العائلي: متأهل وله ولد
مكان وتاريخ الاستشهاد: جبل أبو راشد 26 – 4- 2000
هو قمرُ مشغرة الذي ما غاب وجهه عن جبينها، بل بقيت أهدابه الحانيات ستائر ليلها، ويداه القابضتان على زناد البندقية، بوابة عزها.. فتح حسينتو عينيه على الدنيا في القرية التي ينتسب إليها والداه، اللذان يحملان الجنسية الكوبية والمكسيكية بجذورهما، وانتمى إليها بكُلّه المسكوكة من عشقٍ خالصٍ لله.. وإن كان حسينتو لم يحمل الهوية اللبنانية، فإنّ دمه القاني رسم حدود الأرز الشامخ، وطلقات رشاشه الأخيرة التي كانت أولى الزغردات على تخوم النصر، هي جواز سفره من وطنه الأم إلى دار البقاء الأزلي..
في البقاع الغربي خزان المقاومة، نشأ حسينتو في عائلة متواضعة ضمتها البيئة الملتزمة التي فتحت نوافذ عمرها للعابرين على جسر الشوق جنوباً، حيث كان اسم "أبو حسن بجيجي" و"رضا الشاعر" و"نصار نصار" والعديد من أسماء المجاهدين والشهداء لحناً يترنم مع الينابيع المتفجرة عطاء، يترقرق من أذنيه إلى قلبه، لتستقر هناك، في بحيرة السكينة حيث لا شيء سوى صدى العشق الذي حمله سريعاً إلى الله.. بظله الخفيف المتنقل بين أفياء مشغرة، وطباعه الهادئة التي جعلته كنسمة تبعثُ الراحة في النفوس، مشى فتى صغيراً في طريق المسجد قبل أن تصل قدمه إلى عتبة التكليف، وفتح كتاب الله ليعي قلبه الحق بالحروف العربية، وعرف أنه لن يستطيع البقاء على هامش الصفحة الممتلئة كل يومٍ بالعديد من المهمات الجهادية، فالحرب تنجبُ في كل لحظةٍ أحداثاً جديدة.. أحداثٌ غيّرت قدر الكثيرين، وكانت ، أيضاً في المقابل، قدراً ملك يمين الذين اختاروا إحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة.. أولئك الرجال الذين كبر حسينتو على تعاليمهم، وحفظ حكاياهم المحفورة على حبات التراب. ومع سقوط كل شهيد، يتشكل الغد الجديد أمام عينيه، والانتظار في قلبه لا يهدأ، فالتحق بصفوف كشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه التي رأى في انضمامه إليها خطوة أولى في طريق جهادٍ خطته ملاحم المجاهدين في روحه.
عاش مع الكشافة مرحلة جديدة، وتعلّم أشياء تركت الأثر الواضح في شخصيته اللافتة، والتي أحبها كل من رآها، فهو صاحب الخلق الرفيع، والصمت الطويل، والبسمة المضيئة في الأيام الحالكة بحربٍ ضروس، ابتسامة هي شعاع من شمس الانتصار.
تعلّم حسينتو الصمود والصبر في مدرسة المقاومة، والأمة التي دعمتها وانتمت إليها، فالأهالي الذين صمدوا في مواجهة الاعتداء الصهيوني اليومي، ومدوا جذورهم في أعماق أرضهم المروية بدم الشهداء، مدّت عزيمتها في قلب حسينتو الذي كلما شبَّ كبر معه الطموح والتحدي والتمرد على حياة أرادها الصهاينة واقعاً ذليلاً للأمة، فعكستْ أيدي المجاهدين مرآة الواقع.. التحق حسينتو بمهنية مشغرة ليتابع دراسته في قسم "الفندقية"، ولكنه سرعان ما ترك مقاعد الدراسة، فالعمل مع الأخوة في المقاومة كان قد بدأ يستولي على كل وقته، كما استولى على عقله وقلبه. فبين عملٍ إعلامي، وآخر اجتماعي، ودورات ثقافية صقلت لبه، ودورات عسكرية، كل ذلك جعل منه شخصية فذة واعية مُدركة تماماً لما تقوم به. أضفى حسينتو بأخلاقه العالية والنبيلة، وبسمته الرقيقة، الحياة على من حوله، وتعلّقت القلوب به، وقد ألقت روحه النقية نقابها على وجهه، ما زاد من منزلته لدى عائلته وأهل القرية؛ فهو الصابر الكتوم، الكاظم للغيظ، الحامل لهموم الرفاق والأحبة، والمختزل من أمامهم ما يضيق به صدره، فهو في أصعب الأوقات، وعندما يرزحُ قلبه تحت وطأة الأيام الصعبة، كانت بسمته هي التعبير الوحيد عن كل ما يختلجُ في داخله. بالقرب من منزل ذويه، قضى أوقات فراغه وهو يصلح الدراجات النارية والهوائية، فهذه الهواية لطالما بعثتْ السعادة في نفسه، وهو أيضاً إذا ما لمح طفلاً سارع لحمله بين ذراعيه، ليناغيه ويلاعبه، فتراه شاباً رقيقاً وكأن يديه لم تمسكا بشوك الجبال، ولم تزح صخور الأودية في الليالي الحالكات. عام 1996، وبعد حوالي أربع سنوات من الأعمال المتفرقة مع الأخوة المجاهدين، بدأ حسينتو رسمياً بالعمل في صفوف المقاومة. فبعد خضوعه للعديد من الدورات التي أهّلته للمشاركة في العمليات العسكرية صار أحد الأفراد الأساسيين في دوريات الاستطلاع على محاور البقاع الغربي، وقام بزرع العديد من العبوات في مهمات جهادية متنوعة، كما شارك في عمل الإسناد الناري المتقدم أثناء قيام المجاهدين باقتحام ثكنة جزين قيادة الفوج العشرين أواخر التسعينات.
شهدت محاور البقاع الغربي بأسه الذي لا يلين، وشجاعةً مُزجت بصمتٍ طويل وصبرٍ غريب، وقد حاز على تنويهٍ من سماحة الأمين العام على المهام التي قام بها، ولم يعرف أحد من أهله، ولا من أهل قريته، طبيعة عمله، فكلهم ظنوا أنه موظف، فيما ان مرافقته للأخوة في القرية شيء طبيعي لشابٍ ملتزمٍ، كان المسجد بيته الثاني، وطريق عروجه إلى الله عز وجل. تزوج حسينتو وانتظر بفارغ الصبر أن يرزقه الله طفلاً، ولم تسع الدنيا فرحته وهو يعدّ الشهر بعد الآخر ليأخذ طفله بين ذراعيه، غير أن يوم 26 نيسان من العام 2000، كان اليوم الأخير لذاك الانتظار. فبينما كان ومجموعة من المجاهدين يحرسون الثغور من الغدر الصهيوني، وعلى مقربة من جبل أبو راشد، وقف حسينتو تحت السماء التي سيطرت عليها الطائرات الحربية، فيما التجأ رفاقه إلى مغارة صغيرة، وبقي هو ليحرسهم، وإذ بصاروخٍ يسقط بالقرب منه فيلتحق على أثره برفاقه الشهداء..
تفاجأ الجميع باستشهاد حسينتو، وشكّل رحيله من بينهم صدمةً كبيرة، خصوصاً وأن أحداً لم يعرف بعمله، ويدل ذلك على مدى السرية التي تعاطى بها بمسؤولية كبيرة. وعلى الرغم من الفراغ الكبير الذي تركه بعد استشهاده، فإن التغيير الذي طرأ على حياة بعض الذين عرفوه لجهة الالتزام بالأحكام الشرعية، كان أكبر من كل شيء. شاركت جموع غفيرة في الوداع الأخير له، وقدّم السفير الكوبي ووفدٌ من السفارة التهاني لعائلة الشهيد الذي قدّم نفسه دفاعاً عن كرامة الوطن الذي ضمّ عمره بين ربوعه. ولد طفل حسينتو بعد استشهاده، وسُمي باسمه "حسن"، وإذا كان الله لم يقدّر له أن يشعر ولو لمرة واحدة بدفء حضن والده، فإن كل شيء من حوله، سيحكي له عن بطولة وإقدام والده، واحتفلت المقاومة الإسلامية بالانتصار الكبير لها بتحرير لبنان بعد شهر واحد، ليكون حسينتو آخر شهيد من مشغرة؛ شهيداً للتحرير.