* تلازم العلم والعمل
لو أمعنّا النظر جيداً لوجدنا أنّ كلَّ أمة وجماعة وأي فرد إنّما ترتبط دنياهم وأخراهم ارتباطاً وثيقاً بهذين الأمرين: العلم والعمل، ولا يمكن لكل منهما أن يحتفظ بكامل خصائصه ما لم يُقرن بالآخر. فالعلم بلا عمل لا يجدي نفعاً، وقد ورد في الحديث: "العالم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر"، كذلك حال العمل بلا علم، حيث ورد في الحديث الشريف: "المتعبّد بلا علم كحمار الطاحون".
إذاً لا فائدة من العمل بلا علم وإن كان ذلك العمل عبادةً لله عزّ اسمه، فهو أشبه ما يكون بدوران الشخص حول نفسه؛ إذ لا ينتج عن مثل هذه الحركة أي تقدّم. إنّ وطننا محتاج إلى العلم كما هو محتاج إلى العمل، وقد جعل الله لكل منهما ثواباً وأجراً، فللعلم أجر وثواب وللعمل كذلك. نحن إذ نشيد بالعلم، نشيد بالمعلم حقيقةً؛ لأنّه هو الذي يمنح العلم للآخرين، ولا يمكن الحصول على العلم دون معلم، فمن أراد علماً أخذه عنه. وكذا حال العمل، تكريم العمل إنما هو في الواقع تكريم للعامل وتثمين لدوره، إذ لا معنى لعمل دون عامل. لاحظوا جيداً مدى الترابط الموجود بين هذه المفاهيم، إذ يمكننا أن نعتبر العلم والعمل جناحي الشعب اللذين ينهض بهما نحو التطوّر والتكامل. فالشعب الفاقد للعلم والعاطل عن العمل لا يمكنه التقدم والتطوّر.
* العمل لتحصيل الثواب
هنا أود الإشارة إلى مسألة مهمة وهي: هل أنّ العلم والعمل هما نوع من أنواع التكسّب لتأمين المعاش؟ والجواب هو لا. صحيح أنّ التعليم والعمل هما وسيلة لتأمين المعاش، لكنّ هناك أموراً يحصل عليها المعلم والعامل أهم من لقمة العيش. أحد هذه الأمور هي الأجر الإلهي. تيقّنوا أنّ التعليم والعمل فيهما أجر وثواب. فأنتم الذين تعملون في المعامل والمصانع أو في المزرعة أو تعكفون في غرف التخطيط والبرمجة على عمل معين، أو تدرّسون الطلاب في المدارس أو توفّرون للمعلم والأستاذ ما يحتاج إليه من مستلزمات ومتطلبات في عمله، ليعلم جميع أولئك أنّهم في عبادة في كل ما يزاولونه من أعمال في هذه المجالات، وهذا أمر مهم للغاية. إنّ الشيء الذي نحاسب عليه أنا وأنتم على السواء بعد الموت، ليس لقمة العيش التي حصلنا عليها في دنيانا، لنا ولأهلنا، وإنّما ما ينفعنا هناك هو العمل الصالح.
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. لاحظوا كم تكررت عبارة "الإيمان والعمل الصالح" في القرآن الكريم، وأحد مصاديق هذا العمل الصالح هو نفس النشاط التعليمي الذي تقومون به في الصف، أو العمل الذي تقومون به في المصنع أو في المزرعة. إنّ نشر العلم وتوفير فرص العمل عبادة، كما أنّ الصلاة وقراءة القرآن عبادة. وهذا ليس بالأمر الهيّن أبداً. ونتساءل هنا لماذا جعل الله للعمل والتعليم الأجر والثواب؟ وهل يعقل أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم بفعل ما عبثاً ومن دون هدفأو غاية؟ وللإجابة على السؤال نقول: إنّ الهدف من وراء جعل الثواب على التعليم والعمل هو أنّ الله تعالى جعل كمال البشرية في العلم والعمل، والمجتمع العاطل عن العمل أو الذي يتكاسل في العمل وكذلك المجتمع الجاهل لا يستطيعان ارتقاء مدارج الكمال البشري. وهذا يعني أن لا فائدة من وراء حياتهم وسوف لا يجنون منها شيئاً، وهذا ثابت في علم الله الأزلي الشامل. وكلما كان العمل أكثر نفعاً كان الثواب أكثر. وليس المقصود بالعلم هنا علوم الدين، وأنّ تعليم القرآن فقط هو الذي يستتبع الأجر والثواب، وأمّا إذا علّمتم الآخرين الجبر والمثلثات والفيزياء والهندسة، فلا ثواب لكم! كلا فالمقصود هذا المعنى، فما دمتم تصنعون من أولاد الناس علماء يفيدون المجتمع بعلمهم، فإنّ تدريسكم هذا فيه ثواب وأجر. هذا هو منطق الإسلام. إذاً النقطة الأولى أو المكسب الأول هو تحصيل الثواب الإلهي. ومن الثمرات الأخرى التي تترتب على العمل والتعليم هي مساهمتكم في بناء صرح مستقبل مجتمعكم، وهذه مسألة مهمة للغاية.
* العمل مسؤولية الشعب
إنّ النزاع الدائر في العالم سواء في الماضي أو الآن أو في المستقبل سببه أنّ القوى الاستكبارية تسعى إلى تقرير مصير الشعوب وفق ما تشاء. فأمريكا التي نراها اليوم تزعق وترعد وتملأ الدنيا ضجيجاً وإن كانت في الغالب لا تجني سوى الخيبة والخسران تظن أنّ لها حقاً في التدخل والتلاعب بمصير الآخرين وتعتقد أنّ هذا الحق ينشأ من كونها قوة عظمى. والسؤال المطروح هنا هو هل تستطيع أمريكا وغيرها من الدول الاستكبارية أن تقرر مصير العالم حسب ما تشاء، أو لا تستطيع؟ البعض قالوا: إنّ أمريكا تستطيع ذلك، وهم الدول الضعيفة والعاجزة. وهناك من قال: إنّ أمريكا لا تستطيع أن تتحكم بمصير الشعوب، وهؤلاء هم القوى الثورية الشجاعة، وأنا أؤكد وأقول: إنّ أمريكا لن تستطيع ذلك؛ شريطة أن يمتلك الشعب الذي يواجه أمريكا الإرادة والعزم السياسي، وأن يكون أبناؤه أناساً فاعلين ومجدين يتفجرون طاقة وحيوية. ومن جهة أخرى يمكن أن نقول: إنّ أمريكا تستطيع بسط هيمنتها على الآخرين فيما إذا كان المقابل شعباً كسولاً غير مثابر ولا مجد. فالشعب الذي لا يعمل ولا يبدع ويفتقر إلى القدرات والطاقات الخلاّقة والمبتكرة، وليس لديه هاجس الإحساس بالمسؤولية تجاه بلده ودولته، ولا يلزم نفسه بتأمين احتياجاته الضرورية من خلال العمل والانتاج، الشعب المستهلك فقط، غير المهتم بالانتاج، سيضع بلده في أزمة قاتلة وبالتالي سيضطر المسؤولون وقادة الدولة إلى الاستسلام والإذعان لأمريكا.
* ضمير العمل
الأمر الذي يجب أن نهتم به هو العمل والتعليم. عليكم أيها المعلمون أن تربّوا جيل الشباب، عليكم أن تُنمّوا لدى الأحداث والمراهقين روح العمل وروح الاستقلال وطلب العلم، لا أن يتربّوا على حب الشهادات واللهاث وراء تحصيلها. الشهادة إنما تكشف عن أنّ حاملها لديه هذا القدر من المعلومات ليس إلاّ، ولا يمكن أن تكون هي الملاك أو المعيار، ولا ينبغي أن يُرتَب عليها أي أثر، فالمهم هو العلم. المجتمع بحاجة إلى العلم وبحاجة إلى العمل. الجميع عليهم أن يعملوا. وما عبّرت عنه في وقت سابق من ضرورة بث روح العمل وتنمية الإحساس بالمسؤولية اتجاه العمل ليس من باب المجاملة. ليعلم الجميع المسؤولون والشعب أنّ عليهم أن يصنعوا الخطط والبرامج في هذا المجال. يجب أن يدخل مبدأ الإحساس بالمسؤولية اتجاه العمل "ضمير العمل" ضمن الثقافة العامة للمجتمع. عندما يقوم الشخص بعمل ما، ينبغي أن يكون قيامه بالعمل كما لو أن هناك من يراقبه، وهذا الإحساس بالمراقبة لا بد أن يستمر معه في كل مكان، حتى ولو كان في غرفة لوحده.
وبالتالي لا بد أن يكون العمل متقناً فيه جنبة إبداع وابتكار، أضف إلى ذلك أن العمل يجب أن يؤمّن حاجة ضرورية وملحة للمجتمع. إنّ أحد الأعمال التي تستلزم الإحساس بالمسؤولية أو ما يسمى "ضمير عمل" هو "التعليم والتربية". فعلى المعلم أن يدرّس كما لو كان هناك مشرف يشرف على طريقة تدريسه. هذا هو ما نعنيه بمبدأ "الإحساس بالمسؤولية اتجاه العمل".