مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

أمراء الجنّة: الشهيد المجاهد وفيق زهوه(كميل)

نسرين إدريس‏

 




اسم الأب: زهوي‏
اسم الأم: رقية حانيني‏
محل و تاريخ الولادة: مجدل سلم ‏1976/06/29م
الوضع العائلي: عازب‏
مكان و تاريخ الاستشهاد: طلوسة موقع مشعرون 1998/12/18‏م

يكسر أزيز الباب الخشبي صمت الليل، ويعكس ضوء القنديل وجه "ابن المجدل" الذي يُسارع للدخول قبل أن يلمحه أحد، فهو في قرية "طلوسة" المحتلة (آنذاك)، وعيون العملاء تتربص بكل شي‏ء. دائماً يفرح العجوز وزوجته بزياراته الخاطفة لتفقدهما، لكأنه نسمة صيف دافئة في غربة العمر. إنهما لا يعرفان عنه شيئاً سوى انه من قرية "مجدل سلم" (المحررة)، والمتاخمة للشريط المحتل. يرتاح قليلاً فيستأنسان به، قبل أن يختفي في الظلام من جديد. بتاريخ: 1998/12/18م، دارت مواجهة عنيفة بين قوة كوماندوس إسرائيلية يفوق عددها الخمسين عنصراً، ومجاهديَن من المقاومة الإسلامية استمرت أكثر من أربع ساعات على أطراف بلدة طلوسة وادي السلوقي، أصيب خلالها المجاهد الشهيد عبد الرسول بيضون المكلف بزرع عبوة ناسفة إصابة في ظهره أفقدته القدرة حتى على رفع سلاحه، فزحف وهو ينزف ليلقي بجسده تحت شجرة في محاولة لمنع العدو من أسر جثته بعد أن أسلم الروح إلى بارئها، فيما استمر المجاهد الذي لم يتجاوز الثانية والعشرين من العمر يرمي العدو برصاصه وقنابله، وأوقعهم في شباك الحيرة لسرعته بالتنقل في الأرض الوعرة وإضاعتهم له على الرغم من سيطرتهم الكاملة على المنطقة، فهم في الجبل وهو في وادٍ مكشوف أمامهم.

بردُ كانون يُجمّد الدم في العروق، ولحظات الصمت المطبق بين قذيفة ورشقات رصاص غزيرة، حمل معه عواء كلب بوليسي أطلقوه ليدلهم على مكانه بعد عجز مناظيرهم الليلية المتطورة عن تحديد مكانه.. وهو بهدوء ينقل مجريات الأحداث إلى قيادة المقاومة، بينما قام المجاهدون بحمايته من مدافع موقع مشعرون الذي التهب بنيران وحدة الإسناد، لكنه ختم بالقول: "إنها الرصاصة الأخيرة".. سكتَ جهاز الإرسال، بعد أن أطلقها على الكلب البوليسي وكانت كفيلة بكشف مكانه الذي عصفت به القذائف.. انهمر المطر فوق جسده المعانق للأديم، فيما استمرت قوة الإسناد بدك الموقع والقوة الصهيونية في محاولة حثيثة لاسترداد الجثمانين الطاهرة.. فيما دفع الصهاينة بعملائهم اللحديين لسحبهما، فلم يستطع أحد الاقتراب لغزارة نيران المقاومة، وبعد يومين، جربوا إرسال المدنيين، فلم يفلح أحد بذلك، إلى أن قررت قيادة المقاومة وحفاظاً على حرمة وقدسية الجثمانين ترك العدو يسحبهما حتى يُدفنا..

وجاء العجوز يتكئ على عصاه، واقترب رويداً من جسد الشهيد، لمس جسده الندي مطراً ودماءاً، وأزاح التراب عن وجهه، ليرى ملامح "ابن المجدل" الملائكية.. لقد شعر العجوز بأنه هو، لذا قام بحفر قبر في حديقة منزله، وحاول إقناع العملاء بترك الجثمان ليدفنه، لكنهم رفضوا ذلك، لأن الصهاينة يعتبرون الجثتين "غنيمة غالية الثمن". كسر أزيز الباب الخشبي الصمت.. ودخل العجوز باكياً إلى زوجته "لقد استشهد ابن المجدل"، فخرجت على عجل، لترمي ببصرها إلى القرية التي ضمته طفلاً مذ عودة عائلته من ليبيا وهو في الخامسة من عمره، وبقي ملاصقاً لترابها حتى اللحظة الأخيرة، عسى الرياح تحمل أريجاً من بعض ذكريات وفيق زهوه "ابن المجدل"، فيهدأ الحزن المضطرم في قلبها.. ها هو غريراً يحمل بندقيته الخشبية وصوته يصدح بصوت الرصاص، ولا يتعب، وفي الحقول المترامية الأطراف يلتقط الأفاعي والعقارب ليحبسها في مرطبان، ولم يرتجف قلبه الصغير خوفاً من لدغة أو رهبة فالشجاعة والإقدام برزا في أكثر المواقف صعوبة وحماسة.

تلك الشقاوة التي رافقها التزام مبكر وملفت بالأحكام الشرعية، جعلتا منه شخصية مقربة من الجميع، فهو يؤدي صلاته في المسجد منذ كان عمره عشر سنوات، والتحق بكشافة الإمام المهدي عجل الله فرجه ليصبح العنصر الأكثر ديناميكية وحماساً.. كان وفيق ينتبه إلى أدق التفاصيل على مستوى التزامه الديني والأخلاقي، وكان خياره الجهادي واضحاً في أسلوب حياته، وهذا ما دفعه لحسم قرار التحاقه بصفوف المقاومة باكراً، خصوصاً وأنه رأى مظاهر البعد عن الالتزام الديني مستشريةً في زمن الصراع الكبير بين الحق والباطل. لم يكدر عيشه يوماً هم دنيوي، أو طموح للمستقبل، بل كان جل همه الجواز على الصراط شهيداً يوم تزل الأقدام.. في كل يوم يحمل وفيق بندقية الصيد ويتجه صوب وادي السلوقي ليصطاد العصافير، ولم يعرف أحد آنذاك أن صيده الوفير معلومات رصد لتحركات العملاء في الشريط المحتل المحاذي للقرية، ولم يؤخره مطر او صقيع عن ذلك، بل زادته المصاعب عزماً وإصراراً، ثم خضع لدورات عسكرية وثقافية أهلته للانتساب فعلياً إلى صفوف المقاومة.. كان يبتسم بهدوء وهو على دراجته النارية مبرراً: " عندي شغل"، وينطلق دون أن يعرف أحد إلى أين أو متى يعود؟

لم يصرّح يوماً بأكثر من هاتين الكلمتين.. الشاب الصامت كثيراً، والذي انسل من بين أمه وأخوته دون أن يشعروا، فكبر بعيداً عنهم، وتحمل مسؤولية نفسه وعظمه لا يزال طرياً. وبعد توجه العائلة إلى بيروت للاستقرار، بقي وحده في المنزل، فكان يقوم بترتيبه جيداً، ويشتري الخضار ويطهو الطعام، ويعتني بزرع الحقل الصغير أمام المنزل.. في خلوة بعيدة عن الأنظار، تستأنس نفس وفيق تماماً كما تعشق الجلوس مع رفاقه المجاهدين، فمنح نفسه ساعات وحدة وصمت، منشغلاً بعبادة أضفت على روحه فيضاً إلهياً مده بالصبر والتحمل. أما قلبه الذي عصف بعشق الشهادة فقد حمل إيثاراً متميزاً. في إحدى مهماته الجهادية كان عليه أن يبقى في الأماكن المحتلة مدة عشرة أيام، ثم يسلّم المجاهد البديل مكانه، لكنه رفض الرجوع، وبقي واحداً وعشرين يوماً، في جو ممطر وبرد قارص، لا يملك من الزاد سوى حبات قليلة من التين اليابس، قسمها حبة واحدة للوجبة إلى أنهى المهمة بنجاح. تعرض أحد رفاقه المجاهدين لإصابة أفقدته بصره، فسخّر وفيق نفسه لخدمته، ولشدة حبه وتعلقه به كان يقوم بإرسال راتبه له دون أن يعلم حتى لا يؤذي مشاعره. تميز وفيق بعلاقته بالمجاهدين الشهداء: زياد زهوي، فادي ملحم، باسل علاء الدين، الذين سبقهم إلى الجهاد وسبقوه إلى الشهادة، وقد عزّ عليه ذلك كثيراً، فجد في جهاد نفسه، خوفاً من أن لا يمن الله عليه بالشهادة، وبكى بعد استشهاد رفيقه فادي ملحم بمرارة، خصوصاً وأنه كان من المقرر أن يقوم هو بالعملية، ولكن الأخوة في القيادة رضخوا لإلحاح فادي الذي وصل حدّ البكاء لينوب عن صديقه.. وكم غبط الشهيد زياداً الذي أسرت قوات الاحتلال جثمانه، وتمنى أن يرزق الشهادة والأسر معاً..

في حربي تموز: 1993 و نيسان: 1996، كان وفيق يتنقل بين محور وآخر، ويقوم بتفقد الناس في الملاجئ برفقة باسل علاء الدين، حتى أنه كان يطهو لهم الطعام ويوزعه عليهم، ويؤمن جميع احتياجاتهم.. هكذا كان وفيق؛ طائر جهاد دائم التنقل بين غصن وآخر. تركت زيارات وفيق لأهله في بيروت على قلتها ذكريات جميلة ودافئة، وإن لم يتجاوز أطولها الأيام العشرة.. زادت وحدة وفيق بعد استشهاد رفاقه الثلاثة، واشتكى إليهم وحشة لياليه بعدهم، فخطّ بقلمه شوقه إلى فادي ملحم أثناء تواجده في معسكر التدريب: "تذكرتك، وتركتني وحيداً بين الجبال .. تركتني بعد تعلق قلبي بك، وشوقي إليك، فأنشأت أنشد إليك هذه الأبيات:

"من دماك انرت دروبي‏ يا شهيداً فداه جنوبي"، وأنا باكٍ تحت شجرة الجوز نهار الجمعة: 1996/6/7 الساعة12:20 علك تكون معي.. فهنيئاً مرقدك مع آل بيت محمد صلى الله عليه وآله، مع الزهراء عليها السلام والحسن والحسين عليه السلام.. مع من أحببت..". أسر العدو الصهيوني جثتي الشهيدين عبد الرسول ووفيق، وقد اعترف حينها ب"شراسة المواجهة". هدأ قلبُ وفيق المتعب من الدنيا، ونال ما تصبو إليه نفسه في مواجهة بطولية، كانت آخر مهمة عمل له.. وها قد خلت شوارع المجدل من ابنها الذي طالما جابها ليل نهار على دراجته النارية، وذاق جسده طعم الغربة إلى أن عاد جثمانه اثر التبادل الأخير في 29 كانون الثاني من عام 2003.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع