السيد علي محمد جواد فضل الله
هو أبو جعفر محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي(1) الكوفي. مات أبوه علي في حياة أبيه النعمان فكان أن كفله جده وقام بشؤونه وتربيته(2). ومن هنا صار أبو جعفر يُنسب إلى جده النعمان، فنجد الإمام الصادق عليه السلام في وصيته يخاطبه بقوله: "يا ابن النعمان". إلى ما تقدم، فإننا لم نقف على السنة التي ولد فيها أبو جعفر حيث إن المؤرخين لم يأتوا على ذكرها في ترجمتهم له، وأما بالنسبة لمكان الولادة فمن القريب جداً أن تكون الكوفة، لأنها كانت مكان نشأته وسكناه وعمله، أضف إلى كونها مكان ولائه العشائري عشيرة بجيلة كما تقدم. وإذا كانت سنة الولادة غير معلومة فكذلك الحال بالنسبة إلى سنة الوفاة، فإن أغلب المؤرخين لم يتعرضوا لوفاته ولا أشاروا إلى زمانها اللهم إلا (الزركلي) حيث يذكر أن سنة وفاته كانت سنة 160هـ وقيل كذلك: إنه توفي بعد سنة 180هـ(3). نعم يذكر المؤرخون أنه بقي إلى زمن الإمام موسى الكاظم عليه السلام، ولكن لم يُعرف ما إذا عاش بعد الإمام الكاظم عليه السلام أم لا، ويرجح بعض المحققين أن تكون وافته المنية في عصر الإمام الكاظم عليه السلام(4).
* كناه وألقابه:
وأما كناه فقد كانت له كنية واحدة هي (أبو جعفر) وأما ألقابه فكثيرة منها: (مؤمن الطاق) و(صاحب الطاق) و(شيطان الطاق) و(الطاقي) و(الأحول) و(شاه الطاق). وأغلب هذه الألقاب جاءته لأن دكانه كان واقعاً في سوق في محلة طاق المحامل في الكوفة حيث كانت حرفته هي الصيرفة. يقول الطوسي في الفهرست: "يلقب عندنا بمؤمن الطاق ويلقبه المخالفون بشيطان الطاق"(6).
* أساتذته:
إلى ذلك، فإن أبا جعفر قد أدرك أربعة من أئمة أهل البيت عليهم السلام وهم الإمام زين العابدين عليه السلام والإمام محمد الباقر عليه السلام والإمام جعفر الصادق عليه السلام والإمام موسى الكاظم عليه السلام إلا أن تلمّذه على يد الإمام الصادق عليه السلام كان أكثر منه على أبويه وابنه. فإن أكثر ما رواه واستمعه من الحديث وتعلمه من فن الكلام كان عن الإمام الصادق عليه السلام(7). مكانته عند الأئمة عليهم السلام: ولأجل ما يتمتع به أبو جعفر من مميزات فكرية وملكات نفسانية روحية وقدرات عقلية، كانت له المرتبة الرفيعة والمنزلة القريبة من الأئمة عليهم السلام وخصوصاً الإمام الصادق عليه السلام. من هنا فقد وردت في حقه الروايات المادحة والتي تكشف عن منزلته عند الأئمة حيث كان من أحب الناس إليهم حياً وميتاً وأقربهم منهم، وحب الأئمة عليهم السلام هو حب في اللَّه وللَّه كما أن بغضهم في اللَّه وللَّه ولا شيء آخر وراء هذا المعيار الإلهي الرباني. وقد صحت الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "أربعة أحب الناس إليّ أحياءً وأمواتاً: بريد بن معاوية البجلي وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبو جعفر الأحول"(8) وغيرها من الروايات المادحة.
* موقعه العلمي:
إن لأبي جعفر مؤمن الطاق مكانة علمية عظيمة فقد كان "كثير العلم، متفوقاً في معارفه قوياً في حجته تعددت فيه نواحي العبقرية والنبوغ. فهو عالم بالفقه والكلام والحديث والشعر، وكان قوي العارضة سريع الجواب واضح الحجة"(9). ومن هنا، نجد أن الإمام الصادق عليه السلام كان يوجه أبا جعفر ويرشده إلى كيفية المخاصمة والجدل والمحاججة، ففي بعض الروايات أن مؤمن الطاق دخل على الإمام الصادق عليه السلام بتذلل واستكانة وهذا يدل على ما كان يكنه أبو جعفر لمولاه وأستاذه الإمام الصادق عليه السلام من إجلال وتعظيم فقال له أبو عبد اللَّه (ع): "مالك؟ وجعل يكلمه حتى سكن، ثم قال له: بمَ تخاصم الناس؟ قال: فأخبره بما يخاصم الناس... فقال أبو عبد اللَّه عليه السلام: خاصمهم بكذا وكذا"(10) ومما يدل على موقع أبي جعفر في علم الكلام تلك المناظرات التي تناقلتها كتب العامة والخاصة والتي كانت تدور بينه وبين خصومه في العقيدة والفكر، وقد سجلت لنا المصادر الموثوقة والمتقدمة أن الغلبة في جميع هذه المناظرات كانت حليفة أبي جعفر الأحول، فقد كانت له القدرة الكبيرة على افحام الخصوم واسكاتهم، ومن هنا فقد كان يلقى الكثير من الترحاب والإعجاب من الإمام الصادق عليه السلام، ففي رواية عن أبي خالد الكابلي قال: "رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة قد قطع أهل المدينة إزاره وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه فقلت إن أبا عبد اللَّه نهانا عن الكلام فقال: أمرك أن تقول لي؟ فقلت: لا، ولكنه أمرني أن لا أكلم أحداً. قال: فاذهب فأطعه فيما أمرك، فدخلت على أبي عبد اللَّه عليه السلام فأخبرته بقصة صاحب الطاق وما قلت له وقوله لي اذهب وأطعه فيما أمرك، فتبسم أبو عبد اللَّه عليه السلام وقال: يا أبا خالد إن صاحب الطاق يكلم الناس فيطير وينقضّ"(11). وهذا ويحدثنا التاريخ أن مؤمن الطاق أتى إلى (الضحاك الشاري) من الخوارج والذي تسمى بأمرة المؤمنين على الكوفة، وقد همَّ أتباعه بقتل مؤمن الطاق إلا أن الضحاك نهاهم عن ذلك، وقد طلب مؤمن الطاق منه المناظرة في أمر أمير المؤمنين علي عليه السلام، واللافت هنا أن مؤمن الطاق قد استطاع بذكائه أن يقلِّب أنصار وأتباع (الضحاك) عليه، مما أدى بهم إلى أن يضربوه بأسيافهم حتى لاقى حتفه(12).
وإلى هذه المناظرات، فقد كان أبو جعفر يتمتع بروح مرحة فيها الكثير من الدعابة، وله نوادر مستملحة ونكات بديعة مستطرفة فيها الكثير من الظرف وخفة الروح. ومن نوادره ما ذكره البغدادي قال: ولما مات جعفر بن محمد التقى هو أي مؤمن الطاق وأبو حنيفة، فقال له أبو حنيفة: أما إمامك فقد مات، فقال له شيطان الطاق: أما إمامك فمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم)13). مؤلفاته: لقد صنف مؤمن الطاق مؤلفات في شتى المواضيع الهامة وأهمها في الجانب الكلامي العقائدي، منها: (افعل لم فعلت) ومنها (افعل لا تفعل)(14)، و: كتاب الإمامة، كتاب المعرفة، كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول، كتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة)15)، كتاب إثبات الوصية(16)، كتاب مجالسة مع أبي حنيفة والمرجئة وكتاب كلامه على الخوارج، وكتاب الاحتجاج في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام(17)، يقول بعض الباحثين: ولعل هذا الكتاب الأخير هو نفس كتاب الإمامة السابق، أو كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول(18). تلاميذه: والملاحظ من خلال ما ذكره التاريخ ممن تلمذ على يدي مؤمن الطاق أن أكثر هؤلاء كانوا من جهابذة الرجال ومشاهير الرواة وأكابر الثقاة وفيهم من أصحاب الاجماع الذين لا يروون إلا عن ثقة. وهذا مما يدل على مكانة أبي جعفر ومقامه الكبير عند رجال الشيعة في ذاك الزمان. ومن جملة هؤلاء الأعلام الذين أخذوا عنه ورووا حديثه(19):
1- يونس بن عبد الرحمن، 2- عمر بن أذنية، 3- جميل بن صالح، 4- الحسن بن محبوب، 5- أبان بن عثمان، 6- صفوان بن يحيى، 7- ابن أبي عمير، 8- ابن مسكان، 9- محمد بن سنان، وغير أولئك كثير. ذكر الشهرستاني في (ملله) عن مؤمن الطاق وهشام بن سالم الجواليقي أحد كبار متكلمي الشيعة "أنهما أمسكا عن الكلام في اللَّه، ورويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول اللَّه ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ قال: إذا بلغ الكلام إلى اللَّه فأمسكوا فأمسكا عن القول في اللَّه والتفكر فيه حتى ماتا"(20).
* شعره وأدبه(21):
مؤمن الطاق من شعراء الشيعة وأورد من شعره ما رواه عمارة بن حمزة وذلك: أن المنصور كان إذا ذكر مدح ابن قيس الرقيات المتوفى سنة 85هـ لعبد الملك بن مروان تغيظ منه وشق عليه. فقال عمارة: يا أمير فيكم رجل من أهل الكوفة أجود مما قال قيس. قال: ومن هو؟ قال: مؤمن الطاق وأنشده:
أمسى كئيباً معذباً كمداً تظل فيه الهموم تصطرع |
يا من لقلب قد شفه الوجع يكاد مما عناه ينصدع |
قالت قريش ونحن أسرته والناس ما عمروا لنا تبع |
عن ذكر آل النبي إذ قهروا واللون مني مع ذاك ملتمع |
قد علمت ذاك العريب فما تصلح إلا بنا وتجتمع |
قالت قريش منا الرسول فما للناس في الملك دوننا طمع |
لأن آل الرسول دونهمُ أولى بها منهمُ إذا اجتمعوا |
فإن يكونوا في القول قد صدقوا فقد أقروا ببعض ما صنعوا |
ما راقب اللَّه في نبيهمُ إذ بعده في وصل أهله قطعوا |
وأنهم بالكتاب أعلمهم والقرب منه والسبق قد جمعوا |
(1) رجال النجاشي، ج2، ص203، رقم الترجمة 887.
(2) مؤمن الطاق، محمد حسين المظفر، دار الزهراء، ص6.
(3) موسوعة طبقات الفقهاء، ج2، إشراف جعفر السبحاني، ص517، قارن كذلك: تاريخ الفقه الإسلامي وأدواره، ص181.
(4) مؤمن الطاق، م.س، ص9.
(5) لسان الميزان، ابن حجر العسقلاني، دار الأعلمي، ج5، رقم الترجمة 1017، ص301 -300.
(6) الفهرست، ص132-131.
(7) مؤمن الطاق، ص14.
(8) رجال الكشي، ج2، ص423.
(9) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، أسد حيدر، منشورات مكتبة الصدر، طهران، ج2، ص71 - 70.
(10) رجال الكشي، ج2، ص425 424.
(11) رجال الكشي، ج2، حديث )327)، ص424.
(12) رجال الكشي، ج2، حديث 330، ص429 426.
(13) تاريخ بغداد، ج13، ص411.
(14) الملل والنحل، ج1، ص314.
(15) الفهرست، ص250.
(16) الفهرست، ص132.
(17) رجال النجاشي، ج2، ص204.
(18) مؤمن الطاق، مصدر سابق، ص56.
(19) مؤمن الطاق، ص58 57.
(20) الملل والنحل، ج1، ص315 314.
(21) المرزباني، شعراء الشيعة، ص86 نقلاً عن الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج2، ص70 -69.