حسن زعرور
منذ احتلالها لفلسطين، وإسرائيل تعيش فوق بركان من التناقضات يعمّق مأزقها، وهي تحاول تخطيه عن طريق اللعب على حبال الجمع بين التلموديَّة والقوميَّة، وبين الحداثة والصهيونية دون جدوى، فالانتماء والإيمان مشكلتان مستعصيتان لا حلّ لهما، لما بينهما من تناقض عميق، وصراع قديم قدم الوجود اليهودي نفسه.
* القديم والجديد
التقارب بين ما هو "صهيوني" وبين ما هو "يهودي" أمرٌ مستحيل ولكلٍ امتداداته، وحتى الأمس القريب، إلى ما قبل حرب عام 1967، عجزت المنظمات الصهيونية عن استيعاب أكثر من 12% من اليهود بين صفوفها مع كل ما سخَّرته من قدرات، بعد تلك الحرب حصل حولها التفاف مرحلي نتيجة التعبئة العسكرية والإعلامية سرعان ما انهار إثر حرب تشرين عام 1973 وعادت الصهيونية لتشهد تراجعاً مميتاً، سنةً بعد أخرى، عاجزة عن إحداث اختراق فعلي في التركيبة الدينية لليهودية الأرثوذكسية المعادية لها. عام 1912 أُنشئ الحزب الأرثوذكسي الديني بهدف مواجهة الصهيونية الناشئة ومنعها من التغلغل في وسط الشعب اليهودي، كان إيمان الأرثوذكس "أن حقوق اليهود ستصان بشكل أفضل في ظلّ حكومات نصرانية أو مسلمة"(1)وهو ما أفشل الحركة الصهيونية، وأعجزها عن إحداث اختراق فعلي ومؤشر إلى أيام "بن غوريون"، الذي استطاع بدعمٍ من الحاخام "بلو" من جماعة "مي شيريم"(2) إقامة تزاوج غريب بين الأرثوذكسية المتشددة والصهيونية العلمانية، في نظام رفض تحديد ماهية من هو اليهودي وما هو انتماؤه؟ وتحديد ماهية الدولة الدينية المرتقبة، وبهذا التزاوج شكل المجتمع الصهيوني(الديني السياسي)من خليط عجيب ضمت فيه "الدولة العنصرية" علمانيين وملحدين ومتشددين ملتزمين، وأصوليين متزمتين لكلٍّ قانونه الاجتماعي والديني بتعارض يثير الذهول والحيرة. لم تمر مساندة الأرثوذكسية لقيام "الدولة العدوة" مرور الكرام بل إن ذلك أحدث انشقاقات عميقة بين رافضٍ ومؤيد أوجد ثلاثة اتجاهات.
الاتجاه الأول: سمي "بالمزراحي" (المركز الروحي) وتألف من يهود متدينين، ساعدوا الحركة الصهيونية عن طريق التقريب بين تطلعاتهم الدينية وأهداف الحركة من ضمن منظومة تم ابتداعها تعتبر "أن الصهيونية يد اللَّه التي تقرب موعد الخلاص وظهور الميسيا".
الاتجاه الثاني: سمي "أغودات إسرائيل" (إتحاد إسرائيل)،في البدء ظلت أغودات سوراً منيعاً أمام الحركة الصهيونية وانتشارها ورفضها لها كعقيدة لليهود، غير أنها وعند احتلال فلسطين قبلت بإنجازات الصهيونية كأمر واقع، ثم استغلتها لاحقاً سياسياً واجتماعياً ولا تزال لتطبيق الممكن من العقيدة الدينية وفرضها على الدولة المقامة.
الاتجاه الثالث: سمي "ناطوري كارتا"، وهم الأكثر عداء للصهيونية حتى اليوم فمن هي هذه الجماعة؟
* ناطوري كارتا
يؤمن أتباع الناطوري كارتا (حراس السور) أن المسيح لن يظهر إلا عندما تجد العناية الإلهية أن الظروف مؤاتية لذلك، وأن قرار قدومه يتخذ في السماء وليس على الأرض بأيدي الفانيين (البشر) ويعتبرون أن الحركة الصهيونية تجعل من اليهود أمة عرقية علمانية فقط، وذلك يتنافى مع تعاليم الدين اليهودي، التي تجعل من اليهود شعباً بالمعنى الديني ترتبط هويته بمدى طاعته للأوامر الإلهية، ويرون أن الصهيونية حركة "مشيحانية" زائفة تستغل نبوءة ظهور المسيح وتتحدى الإرادة الإلهية، إذ بدلاً من دعوة اليهود إلى الانتظار بصبر وأناة إلى أن يأذن الرب لهم في العودة، فإنها تحرضهم على أخذ زمام الأمور بأيديهم والعودة إلى فلسطين من أجل استيطانها، وأن هذا الاستيطان تقوم به حكومة مجدفة ليس إلا قرصنة من قبل دولة الشيطان المنظّمة الصهيونية التي تفسد الوجود اليهودي "وإن إله مييا شعريم يبغض هذه الأعمال"(3). ويؤمنون أن هذه الدولة المقامة دولة وثنية لا يجب التعامل معها، أو الانخراط في جيشها أو الاعتراف بنشيدها وعلمها، أو دفع الضرائب لمؤسساتها أو العمل بها، أو اتباع مناهج مدارسها التعليمية ولديهم مثل يرددونه "لا نريد عسلكم... لا نريد لسعات نحلكم". تعتبر "رمي شيريم"(مئة بوابة((4) في القدس حي "الناطوري كارتا" المميز عن غيره من الأحياء اليهودية، منه تنطلق وحدات مراقبة ذبح الخنزير أو بيع لحمه المحرم لدى أتباع الناطوري، ومنه تتم مراقبة "مدنسي حرمة السبت" ومعاقبتهم، أو المسيئين أخلاقياً ومسلكياً للديانة، وتعتبر أسفار موسى الخمسة والصلاة والاحتشام في اللبِّاس من المقومات الأساسية لمعتنقي وأتباع الناطوري. أما كلمة حراس "السور" فلها معنيان لديهم: الأول مجازي بمعنى سور الحماية للديانة اليهودية الحقيقية من قبل الأتباع، والثاني إستدلالي عن طريق ارتداء الملابس السوداء الطويلة لحفظ تراث الأجداد اليهود المؤمنين الحقيقيين بنظرهم، ويؤمنون "أن اليهودية كدين كانت وما زالت غير مقيدة باعتبارات جغرافية بحتة، ولهذا استطاعت أن تكافح عبر الأجيال من أجل بقائها، فالدولة تأتي وتذهب، ولكن معتقداتنا تستمر إلى الأبد، ومملكة اللَّه ليست تحت رحمة أية قوة زمنية"(5).
* القمع والإرهاب
كلمة يهودي لا تعني الشعب الواحد في المدلول والانتماء في التاريخ الحضاري للأمة الواحدة، لأن الحضارة اليهودية خضعت للزمان والمكان الذي تواجد به اليهود، كان الحفاظ على الدين اليهودي في الزمان والمكان هاجس المتعبدين اليهود المحافظين على شريعة موسى(ع)والتراث اليهودي، وكان شعارهم "في العام المقبل سنكون في أورشليم "شعار روحي" لم يهدف يوماً لإقامة دولة على أشلاء الإنسانية وإنما دعوة لتوطيد أركان الدين اليهودي"(6). ولأن إيمان أتباع ناطوري كارتا "أن الدين اليهودي دين إلهي متاح للجميع" حاربتها الدولة الغاصبة والصهيونية الدولية بكل قواها، فإتاحة الدين اليهودي أمام الأمم الأخرى يلغي المقولة العنصرية الصهيونية عن "نقاء الدم اليهودي" كما يلغي خرافة "الوعد الإلهي" عندما قام الحاخام "لويس فتكلشنان" رئيس مدرسة اللاهوت بمنع طلابه من إنشاد النشيد الوطني الصهيوني، اتهم بالخيانة والارتداد عن الدين والفساد إلى ما هنالك من الاتهامات التي زعزعت مركزه وحياته، ولم يكن في ذلك وحيداً، كان معه ثلاثة من الحاخامات الخطأة ممن جاهر بالرفض لقيام دولة يهودية في فلسطين لأنه سوف يؤدي إلى دمار الشعب اليهودي كله" كما قال الحاخام "فلدمان" والحاخام "وليم روزنبلوم" راعي معبد "إسرائيل" في نيويورك. يعتبر المجلس اليهودي الأميركي الواجهة لأفكار "ناطوري كارتا" في الولايات المتحدة الأميركية الذي يعمل على إظهار مساوئ إقامة دولة "الكيان الغاصب" على الشعب اليهودي المنتشر في أقطار عدة من العالم وأن "وجود هذه الدولة سيؤدي إلى دمار الوجود اليهودي(7)، وعليه فإن أعضاء المجلس المذكور يتعرضون على مدار الساعة لحملات إعلامية تهدف إلى تشويه سمعتهم وإرهابهم فكرياً، إضافة إلى التهديدات والتضييق والمعاقبة والحرمان من العلاقات الاجتماعية والخدماتية ووسائل ضغط أخرى، وممن تعرض للتخوين أدباء ومفكرون وتجار يهود نذكر منهم: رئيس القضاة أرفين ليهمان، هنري مورغنتاو الكبير، يعقوب تشيف، يوليوس روزنوالد، فليكس أرنبرغ، أنطوني لويس، مايك والاس، ألفرد ليلنتال، روبير تافيورليخت، ريتا هاوزر، ملتون فيورست، سيمور هيرش، مايكل ليرنر، نعوم تشومسكي، فيليب كلوتنرنيك، آرثر كوباكر. يقول الكاتب اليهودي إسحاق دويتشر "لقد دفع اليهود غالياً ثمن الدور الذي لعبوه في الماضي وهم اليوم كبش فداء الرأسمالية، فهل سينتهي التاريخ باستكمال آخر حلقاته على هذا النحو"(8).
(1) باري شميش، سقوط إسرائيل، ص72.
(2) أدوين رايت، التضليل الصهيوني البشع، ص115.
(3) جان هلد، رحلة في قلب إسرائيل، ص198.
(4) يوسي ميلمان، الإسرائيليون الجدد.
(5) الفرد ليلنتال، ثمن إسرائيل، ص2.
(6) الفرد ليلنتال، ثمن إسرائيل، ص2.
(7) السناتور وليم فولبرايت، 3 تموز 1974.
(8) إسحاق دويتشر، اليهودي اللايهودي، ص115.