موسى حسين صفوان
حيثما وُجد الإنسان، على امتداد التاريخ والجغرافيا، يوجد الإيمان، وبإزائه يوجد الكفر... ظاهرتان متضادَّتان رافقتا مسيرة الإنسان منذ أن داس بقدميه أديم هذه الأرض، فما هي يا ترى حقيقة هاتين الظاهرتين، ومن أين تمتد جذورهما، سواء على مستوى النفس البشرية، أو ما يظهره المشهد الاجتماعي، الذي ما هو في الحقيقة إلا انعكاس لحركة هاتين الظاهرتين؟... من حيث المبدأ نجد أن قراءة بعض عناصر الإيمان سوف ترشدنا إلى معرفة ما يقابلها عناصر الكفر، والعكس صحيح، فالظاهرتان يوشك أن تكونا على طرفي نقيض... ولعلَّ أفضل وسيلة للتعرف على الجذور النفسية لظاهرة الكفر هو في الرجوع إلى الآيات القرآنية الكريمة، فقد عالج القرآن الكريم من خلال قصصه ومواعظه موضوع الكفر معالجة نفسية تغوص في أعماق النفس البشرية لتظهر خفاياها بدقة وهذا ما يجعل القرآن الكريم أكثر من كتاب خبري تنبئ آياته عن الغيب، أو تروي قصص الأمم الغابرة، فهو إلى ذلك كتاب يذخر بالحجج والبراهين العقلية الدامغة التي تكفي لإقامة الحجة على العالمين، بيد أنها بحاجة إلى من يلتفت إليها، ويوجه نحوها الأنظار...
وقبل عرض باقة من آيات الكتاب الكريم، علينا أن نتعرف إلى بعض المفردات التي وردت في هذا المجال:
1- الكفر: يقال كَفَرَ كُفراً الشيء، ستره وغطّاه، وكفر بأنعم اللَّه جحدها وتناساها، وذلك ضد الشكر، وكفر كفراناً، ضد آمن، والكافر هو الجاحد لنعم ربه، وفي الخلاصة، يستفاد من اللفظ معنيان اثنان وهما: الكفر الذي يضاد الإيمان، والكفر الذي هو ضد الشكر.
2- الجحود: يقال: جَحَدَ جَحْداً وجُحُوداً أي كفر، وجَحَده، كفر به وكذّبه، وجحده حقّه أي أنكره مع علمه به فهو جاحد، ومن هنا قوله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...﴾ (النمل: 14).
3- العناد: يقال عَنَدَ عنوداً عن أصحابه تركهم وأخذ غير طريقهم، وعَنَدَ وعَنُدَ عن الطريق أو القصد؛ مال وعدل، وعند الرجل؛ فارق الحق وهو عارف به فهو عنيد، وتعاند القوم، عاند بعضهم بعضاً، قال تعالى: ﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ﴾ (ق: 24) ويبدو أن هاتين الصفتين، وهما، الجحود والعناد، من أشد أنواع الكفر، ولذلك ورد في دعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "... لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، وقضيت به من إخلاد معانديك، لجعلت النار كلها برداً وسلاماً، وما كانت لأحدٍ فيها مقراً ولا مقاماً...".
4- الإلحاد: يقال: لحد السهمُ عن الهدف، عدل عنه، ولحد إلى فلان، مال إليه، ولحد في الدين بمعنى ألحد، أي مال وحاد وطعن فيه، وألحد، أيضاً بمعنى مارى وجادل، وشك في اللَّه. وخلاصة القول، هناك ما يفهم منه أن الإلحاد هو الميل عن الحق بدوافع نفسية منها اتباع الهوى: قال تعالى: ﴿... إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا...﴾ (فصلت: 40).
الاستكبار أصل الكفر: ويبدو من خلال تدبر العديد من الآيات الكريمة أن الاستكبار هو أساس الكفر، والاستكبار في حقيقته ينبع من سوء تقدير القيمة الحقيقية للنفس وما يحيط بها من واقع، فيتولد عنه جملة من المشاعر والأحاسيس المعقَّدة، والتي تشكل مجتمعة ما يطلق عليه القرآن "مرض القلب" قال تعالى: ﴿... فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا...﴾ (البقرة: 10)، فمتى تفاقم حال هذا المرض، وبلغ غايته، أدى بأصحابه إلى الكفر، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ (البقرة: 6 و7). وقد ظهر الاستكبار واضحاً في العديد من الآيات الكريمة: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ...﴾ (ص: 76) وفي قصة نوح عليه السلام: ﴿... وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًاً﴾ (نوح: 7) وقال أيضاً وهو يتحدث بلسان قوم نوح عليه السلام: ﴿... وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ...﴾ (هود: 27)، وقلّما تجد نبياً يدعو إلى الإيمان لم يعانِ من المستكبرين، حتى باتت القضية الأساسية للإنسان، بما هو مستخلف في الأرض، تتمثل في الصراع بين المستكبرين والمستضعفين...
العدالة والرشد النفسي: قد يبدو غريباً القول أن الكفر بكل عناصره ومفرداته لا يعدو كونه ظاهرة مرضية، تعاني منها النفس البشرية على المستوى الفردي، كما على المستوى الجماعي... فالاستكبار كما رأينا، يتمظهر على صورة عقد نفسية، تبدو تارة على شكل معصية، وأخرى عناد وجحود وكفر، وهذه الظاهرة يصعب تتبع أسبابها، إلا أن تلك الأسباب يمكن أن نلخصها بعنوان كبير هو الظلم، سواء كان ظلم الإنسان لنفسه، أو ظلمه للآخرين، قال تعالى: "وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون" وهذا الظلم لا يترك على ما يبدو أثره على صاحبه بما هو فرد، بل ربما تتسع دائرة انتشاره بحسب طبيعته، فبعض أنواع الظلم تمتد إلى أجيال عديدة، مثل البدع في الدين، وسوء الأخلاق، والتقصير في تربية الأبناء مما يخلق ما يمكن أن يطلق عليه مظالم جارية في مقابل ما يعرف بالصدقات الجارية. ويلعب الجهل دوراً بالغ الأهمية في انتشار أسباب الكفر، فحيث وجد الجهل، كثرت العثرات، وبالتالي كثرت المظالم التي تؤدي إلى فساد النفس البشرية وانحرافها عن الصراط السوي. والنتيجة تؤدي، وبصورة مجملة، إلى انقسام المجتمع البشري إلى فريقين كبيرين، بغض النظر عن الكثير من التفاصيل في هذا الموضوع، وهما فريق أولي الألباب الذين يمثلون الفئة الراشدة في المجتمع الإنساني والذين قال عنهم سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ (الزمر: 18)، والفريق الثاني هو فريق المستكبرين الذين تجمعهم صفة العناد والكفر والجحود، وتتعدد مشارب أهوائهم، من حب المال والسلطة والفسوق وغير ذلك، قال تعالى: ﴿... وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّم...﴾ (البقرة: 206). وقد بلغ بعض الأقوام، مثل قوم نوح وعاد وثمود وقوم صالح وقوم لوط، مرحلة لا رجوع بعدها، يقول اللَّه سبحانه في وصفه لقوم لوط على لسان نبي اللَّه لوط عليه السلام: ﴿... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ...﴾ (هود: 78) ويقول في صفتهم في آية أخرى: ﴿... لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (الحجر: 72).
وخلاصة القول، إن الكفر بما هو ظاهرة تمتد في جذورها إلى أعماق التاريخ البشري المليء بالحجب النفسانية فإذا تراكم الظلم في النفس البشرية فقدت صفة العدالة والرشد، وتلبَّست بصفة الاستكبار والجحود، ويستطيع الإنسان أن يراقب عناصر هذه الظاهرة من خلال ملاحظة سلوك أصحابها، فأهل الإيمان يتميزون بالعدالة والتوازن في شخصياتهم، وبالتالي لا يصدر عنهم إلا السلوك السوي، قال تعالى: ﴿ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ...﴾ (المجادلة: 22). ولا يبلغ الإنسان هذا المستوى، حتى يجاهد نفسه ليصل بها إلى الرشد الذي هو مدار السلوك السوي يقول سبحانه: ﴿... وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ (الحجرات: 7). وما من شك أن ثمرة جهاد النفس، وإجبارها على ترك الكفر والفسوق والعصيان والكفر هنا بمعنى كفران النعمة أيضاً سوف تكون؛ أن يلقي اللَّه سبحانه وتعالى في قلوب المجاهدين حب الإيمان، وفي هذا غاية الرشد.