علي كريّم
إلى فلسطين شدَّ الرحال... ليختصر الزمان وينسج من خيوط الفجر بريقاً يمتد من عينيه إلى قبة الأقصى، عبَرَ حاملاً دمه والسلاح وشعاع الحرية هدية لكل فلسطين... فمنها البداية، وفيها خط سنوات أسره بألوان الصبر والعذابات وعاد وقلبه إلى تلك الأرض المباركة يهفو ليذيق عدو اللَّه بأس رجال، أسرج اللَّه في أفئدتهم نور طاعته وفي عقولهم مصابيح هدايته. فادي محمد الجزار ابن فلسطين الأبية، آلى على نفسه إلا الدفاع عن حرمات الأمة، فكان ترجماناً للآية المباركة ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92).
الأسير المحرر فادي الجزار من مواليد برج البراجنة في الخامس عشر من تشرين الأول من العام 1972، فتح عينيه على الدنيا وألوان الظلم والاضطهاد تفتك بمقدرات هذه الأمة، وبين لبنان وفلسطين اشتعلت نار الغضب في قلبه على عدو هو ذا نفسه، يقتل هنا وهناك ويشرِّد هنا وهناك، فما كان من فادي إلا أن جمع في جهاده ما بين أرض عامل ومهد المسيح عليه السلام... فبالأمس البعيد نجا أخوه من مجزرة الحقد الصهيونية في صبرا وشاتيلا وبعدها استشهد أخ له مع المقاومة الفلسطينية في العام 1988، فحمل عندها بندقيته وعرف بوصلة جهاده. في جو يعبق بالنضال ضد المحتل الغاصب، نشأ فادي الجزار عاشقاً للمقاومة، فبعد التحاقه بالتشكيلات العسكرية، وعمله ضمن وحدات العمل الإعلامي، تفرَّغ فادي في المقاومة الإسلامية معاهداً ربه على الاقتصاص من أعداء دينه والإنسانية، شاحذاً قوته من نداءات الإمام الخميني في مقارعة الغدة السرطانية وإزالتها من الوجود ومن الانتفاضة المباركة الأولى في فلسطين.
* يوم الأسر:
بتاريخ السابع والعشرين من تشرين الأول للعام 1991، وفي بلدة عيتا الشعب الجنوبية، كان فادي مع اثنين من المجاهدين الفلسطينيين في طريقهم إلى الأرض المحتلة لتنفيذ عمليات استشهادية، وعلى إثر انفجار لغم تحت قدم أحد رفيقيه والذي أدى إلى استشهاده وإصابة فادي، أشعل العدو الإسرائيلي بطائراته ودباباته المنطقة لتدور اشتباكات في محيط الانفجار امتدت من الساعة الواحدة والنصف فجراً وحتى الساعة السابعة والنصف صباحاً، وأسفرت عن استشهاد المجاهد الفلسطيني الآخر، وإصابة فادي الجزار إصابات بالغة، غيّبته عن الوعي لعدة مرات، وقد حاول عند وصول جنود العدو إلى قربه مواجهتهم بما في يديه من سلاح ولكنه لم يقوَ على ذلك، فما كان من العدو إلا أن جرَّده من سلاحه، ونزع عنه ثيابه، ونُقل باتجاه الموقع العسكري وهو مكبل اليدين والقدمين. في تلك اللحظات تمنى أن يرزقه اللَّه الشهادة، وهو الذي كان ذاهباً لملاقاة ربه، ولكنه أيقن بأن هذه الطريق هي طريق ذات الشوكة، وأن الرسالة مؤداها هو الأهم، فالشهادة أو الجرح أو الأسر، لم تغب يوماً عن ناظريه، حتى إذا أنعم اللَّه عليه بإحداها، شكره على حسن عطائه مكتفياً أن اللَّه اختصه بكرامة تقربه منه...
* شهر في المستشفى:
مع بالغ الجرح الذي أصابه، مكث فادي الجزار في مستشفى بحيفا مدة شهر تلقى خلالها نذراً بسيطاً من العلاج، رافقه التحقيق الذي وصل في بعض أوقاته إلى 12 ساعة متواصلة، وعدد المحققين إلى 20 محققاً، وكثيراً ما ساومه المحققون على بتر قدمه المصابة، فكان جواب فادي، بأنه جاء للشهادة ولا يكترث لمثل هذا الأمر. شهر عايش فيه الأسير أسوأ ما تقدمه الإنسانية لجريح، لم يدعوه لحظة ليرتاح، حتى إذا حان وقت الخروج ألزموه بالنزول على سُلّم المستشفى على الرغم من حالته المرضية، وأكثر من ذلك بالقميص المخصص للمرضى فقط!! في حين أن الطقس خلال تلك الأيام بدأ يميل نحو البرودة.
* من سجن إلى سجن:
بعد الشهر الذي قضاه في المستشفى، نُقل الأسير فادي الجزار من زنزانة في سجن الجلمة في حيفا والتي مكث فيها حوالي الشهر والنصف في عزل انفرادي ودون أي مقومات وحُكم خلالها عليه بالسجن 25 عاماً من قبل المحكمة العسكرية إلى زنزانة أخرى في نفس السجن ولكن مع وجود معتقلين من جنسيات مختلفة مع مقومات أفضل من تلك التي كانت في الأولى. جلَّ الوقت كان منشغلاً بالصلاة والدعاء وما حفظ من كتاب اللَّه، فهي لَحقّ فرصة يعمّق الأسير خلالها علاقته بربه، ويتفرغ فيها للعبادة، ليستشعر معها فيوضات الرحمة الإلهية والألطاف الربانية. انتقل بعد تلك الفترة إلى سجن بئر السبع ليمضي فيه حوالي 4 أشهر ليوخذ بعدها إلى عسقلان ويمضي في سجنها تسع سنوات من الأسر مع مجموعة من الأسرى اللبنانيين مع وضع أفضل مما كان عليه في السجون السابقة، لتشهد تلك الفترة سلسلة الإضرابات والتي قادها فادي الجزار ورفاقه بغية تأمين العديد من المستلزمات وإن كان العدو لا يؤمِّن إلا القليل القليل منها. ودرءاً لأي تعب نفسي قد يصيبه، حرص الأسير فادي الجزار على عدم تذكر الأهل والمحيط بل وطَّن نفسه على سنوات طوال قد تمتد أكثر من 25 عاماً (سنوات حكمه)، فهو بين يدي عدو لا يرعى للمواثيق حرمة ولا للعهود وفاءً.
ومع نهاية العام 2000، نُقِل فادي ومن معه من الأسرى إلى سجن نفحا على إثر مداهمة العدو للزنازين واكتشاف أمر الأجهزة الخلوية ليقضي هناك سنوات أسره الأخيرة إلى حين إتمام صفقة التبادل مع بداية العام 2004. أخبار المقاومة كانت جلَّ همه، يقوي بها عزيمته وعزيمة من حوله، وينقل العبر والدروس إلى إخوته الفلسطينيين، فمن شهادة السيد عباس الموسوي إلى حرب تموز فحرب نيسان، إلى حدث التحرير وأسر الجنود الثلاثة والعقيد تننباوم، محطات لم تغب عن سياق الأحداث اليومية التي عايشها، فلكم كانت البلسم لمعاناة الكثير من الأسرى والمعذبين ومعها كان يكبر الأمل والثقة بحزب اللَّه بأنه القادر ليس على تحرير لبنان فحسب بل وفلسطين أيضاً من رجس الاحتلال.
* العودة:
الإعلان عن إتمام صفقة التبادل لم يغير من حياة فادي ورفاق دربه في الأسر ولم يَعِدوا أنفسهم بالحرية، خاصة وأن العدو لا يحفظ مواثيق أو عهوداً. توالت الأيام، واقتربت ساعات اللقاء، لينسى فادي الجزار الساعات ال24 التي قضوها في الانتقال من "نفحا" إلى "تل أبيب" ومنها إلى ألمانيا ثم إلى بيروت لينسى كل ذلك عند ملاقاته لوالدته وإخوته، فسنوات طوال حجبت الابن عن أهله، لكنها لم تغيِّر من صلابتهم وموقفهم، بل زادتهم إيماناً واحتساباً فما جرى لفادي هو بعين اللَّه وفي ظل رضوانه.
* إلى بلدة عيتا مجدداً:
أكثر من إثني عشر عاماً، ولم تذهب مشاهد تلك اللحظات من مخيلته، عاد وفي القلب شوق كبير لزيارة البقعة التي خاض فيها المواجهة وأُسر على إثرها، دقات قلبه تسارعت وهو يقترب من المكان، مع الدليل نفسه الذي رافقه هو ومن كان معه حينها، شارحاً له بالتفصيل ما حدث معهم حينها، على الرغم من التغيرات البسيطة في بعض تضاريس المنطقة، فالشجر الكثيف لم يكن موجوداً حينها بل كانت أرضاً جرداء تماماً ومكشوفة. منذ لحظات الأسر الأولى، إلى حين العودة، لا يمكنه إلا أن يقف وقفة إجلال وإكبار لتلك السواعد التي أخذت على عاتقها تحرير الأرض، وهو الذي كان يقرأ في جنباتها النصر المبين، وما يتمناه أن يحفظ اللَّه المقاومة ويؤيدها بنصره ويحفظ قادتها، وأن يعينها على جهادها بقوة الإيمان والالتزام بالنهج المحمدي الأصيل وأن لا ندع لمكائد الشيطان سبيلاً لحرفنا عن السبيل.