للمقدس البيد آبادي(1)
كل من شملته العناية، وأرشده التوفيق، يصل إلى نهاية السعادة، ومن هنا قالوا: العناية الأزلية كفاية أبدية. ومطلق العناية عبارة عن إحاطة علم الحق جلَّ وعلا بكل الوجود، بالوجه الذي هو عليه، الذي يجب أن يكون، ويسمونه القضاء السابق. وتفصيل ذلك على الترتيب الذي تؤدي به سلسلة العلل والمعلولات القدر والعناية الخاصة المقصودة هنا، هي تعلق علمه وإرادته تعالى بوجود شخص معين على الكمال المناسب له، على الوجه الذي يجب. وكل ما كان في العلم الأول معلوماً على هذا الوجه، فإن أسباب القدر الموافقة لإرادة ذلك الشخص وسعيه يمكنها أن توصله إلى ذلك الكمال، ويسمون ذلك: التوفيق. والكمال الذي يحصل في الكليات، السعادة. أنت هبني القلب، وانظر الإقدام. أدعني إليك، وانظر الفروسية(2).
ومن هنا قالوا:
كل هداية تحصل عليها أيها الدرويش، اعتبرها هدية الحق، لا استجداءك(3)
وأهل الهداية قسمان:
* المحبوبون: وهم فرقة توصلهم قابليتهم من غاية الصفاء إلى المكاشفات ودونما سعي وتقلب في الأطوار، وتحمُّل المشقة وأنواع المجاهدات، وتنقلهم (قابليتهم) من ذاتيات الذات إلى أنوار المشاهدات، وتسقيهم من أكؤس زلال الوصال وملذات الأنس، ليلفهم الفناء كلياً عن غير المعشوق الأول، عندها يردُّون عليهم على سبيل الهبة وجودهم الحقاني بعد فناء البشرية (منهم) ويردّونهم مع مقام المعاملات وهياكل الطاعات والعبادات ليتمتعوا بأنواع التنعمات في صور الخدمات، ويحصلون (عندها) على روح خدمة الحضرة مع كمال الأنس ولذة المشاهدات.
* المحبّون: وهذه الفرقة هم أهل السير والسلوك، أول حالهم في بداية الإرادة التي هي أثر العناية ولمعان بارقة(4) نور العشق الحقيقي الذي يعبر عنه يحبهم حتى يختاروا المعشوق الأول بحكم يحبونه على الجميع، ويروا الإعراض عما عداه لازماً، ويتوجهوا إلى جنابه بشوق تام متزايد، وعزيمة قوية متصاعدة، ينبري للسير سرهم(5)، ولفرط الصدق يقطع (بهم) الطريق كله بإخلاص. وعلى كل سالك إزالة الموانع وتحصيل الشرائط اللازمة، وتحصل إزالة الموانع بالزهد الحقيقي، وتُحَصّل الشرائط بالعبادة. وأصل مقامات السير والسلوك ومنازلهما هذان المقامان (الزهد والعبادة) والكل يرجع إليهما، ذلك أن حاصل السير والسلوك فناء الأنا والبقاء ببقاء الحق والاتصاف بصفاته، والزهد من قبيل التروك، مؤدٍ إلى الفناء، والعبادة من قبيل الأعمال، مفضية إلى البقاء. وأول خطوة من الزهد الورع الذي هو اجتناب المناهي والمكاره (المكروهات)، بعدها اجتناب الفضول(6) الذي يتولد منه الصبر. بعد ذلك الحذر من نسبة الأفعال إلى نفسه برؤية جميع الأفعال من الحق تعالى، ومن هنا يحصل التسليم والرضا. بعد ذلك فناء الذات بطلوع سُبُحات أنوار الوجه الباقي، وذلك ظهور سلطان التوحيد، وكل ما يأخذه الحق عزَّ وعلا من عبده ويتصرف به يعطيه من عنده بدلاً منه. إن في اللَّه خلفاً عن كل ما فات(7).
ومن هنا كانت ضرورة مقارنة العبادة التي تورث البقاء، للزهد، ليتم تعويض كل ما يفنى بذاك، بهذا العوض الباقي والمدخر. ويلزم من ترك الأفعال والخروج من التلبس بها الاستغناء بالحق واكتساب المحبة، ومن يتوكل على اللَّه فهو حسبه(8) ويصبح بفعل الحق فاعلاً. بي يسمع وبي يبصر وبي يبطش. ويحصل من الإنسلاخ من ملابس الصفات، مقام البدلية، والتخلق بالأخلاق الإلهية والاتصاف بالصفات الرحمانية، وتُقبِل مطالعة جمال الحق وجلاله وتستحكم محبوبيته تعالى. لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي به يتكلم(9). وتكون كرامته من فسادها(10) بقاءَه ببقاء قيوم الكل والتحقق بإنيته وذلك هو الفوز الأكبر.
(1) هو المولى الجليل الشيخ محمد البيدآبادي وفي دائرة المعارف القيمة (رياض الجنة) يقول عنه معاصر آخر له هو العلامة النوري الخوئي ما يلي: مولانا البيدآبادي كانت له اليد الطولى في جميع فنون الحكمة سيما الفن الإلهي. وكان ".." فرداً لا نظير له في الآفاق، وقد بلغ الغاية في تهذيب الأخلاق والتزكية وتطهير الباطن حتى اختص بالخروج من التيه الظلماني الناسوتي إلى العالم النوراني اللاهوتي، إلى أن يقول: ولجناب مولانا في الفن الإلهي (التوحيد) والتفسير تحقيقات عميقة وافرة. (انتهى) وبعد عمر عامر بالتقوى والعلم والجهاد، وافاه الأجل عام (1198هج) وقد ووري الثرى في مقبرة )تخت فولاد( بأصفهان، وضريحه الطاهر مزار أهل القلوب. وقد كتب المرحوم البيدآبادي قدس سره هذا النص كختام لرسالته في المبدأ والمعاد، وهي باللغة الفارسية، ولم تحضرني نسختها، فالنص هنا عن كتاب: تذكرة المتقين "من ترجمة لم تطبع" حيث ورد النص خاتمته.
(2) مضمون بيت.
(3) مضمون بيت.
(4) قال أمير المؤمنين عليه السلام: قد أحيا عقله، وأمات نفسه، حتى دق جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه، وأرضى ربه. ابن أبي الحديد، شرح النهج 127 11 وانظر شرحه لذلك بالتفصيل وخصوصاً ما قاله ص137.
(5) المراد أن البعض يسير ظاهرهم، والباطن لا علاقة له بالسير، والبعض يسير ظاهرهم وباطنهم معاً، إلا أن سرهم لا علاقة له بالسير، أما هؤلاء فإن سرهم هو الذي يسير إلى اللَّه، وتبعاً له يسير الباطن والظاهر ويشمل سرهم السر وسر السر، السرائر، فإن زيادة المبنى تكشف عن زيادة في المعنى.
(6) كالتدخين، الشاي، القهوة وكل ما هو بلا مسوِّغ منطقي.
(7) عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: لما مات النبي صلى الله عليه وآله سمعوا صوتاً ولم يروا شخصاً يقول كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز فوزاً عظيماً، وقال: إن في اللَّه خلفاً من كل هالك وعزاء من كل مصيبة، ودركاً مما فات، فباللَّه فثقوا وإياه فارجوا فإنما المحروم من حرم الثواب. الشيخ البهائي، الحبل المتين 74 الشهيد الأول، الذكرى 71. وانظر: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة 491 عن الإمام الرضا عليه السلام وأنه الخضر عليه السلام.
(8) سورة الطلاق، الآية: 3.
(9) حديث قدسي (بحار الأنوار ج 155 - 75).
(10) مرجع الضمير هو "ملابس الصفات" فيكون المعنى: ويحصل من الانسلاخ من ملابس الصفات مقام البدلية إلخ، ومن فسادها بقاؤه ببقاء قيوم الكل الخ.
ترجمة: الشيخ حسين كوراني