نسرين إدريس
اسم الأم: سعاد شمص
محل وتاريخ الولادة: شعت 6/7/1963
الوضع العائلي: عازب
مكان وتاريخ الاستشهاد:وادي الشهداء 8/3/1986
اسمه أحمد... ومن هناك جاء؛ حيث البيوت المستضعفة الغافية على شاطئ البحر، حيث الأزقة الضيقة المفضية إلى بعضها، يسعى بين قومه ليتبعوا المقاومين، "اتبعوا من لا يسألكم أجراً"... فصدقوه، إنه كان صادق الوعد تقيا، ومبشراً بآيات اللَّه ؛ إن الأرض للَّه يورثها لمن يشاء من عباده المخلصين؛ "قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين...".
إنه هو؛ ليس علماً من أعلام المقاومة فحسب، بل مدرسة ربّت الخُلّص من الرجال، ودرّبت الأشاوس من المقاتلين صانعي النصر المبين وبحق هو رجل المواقف الصعبة. والحقيقة في سيرته تختلطُ بالقليل الذي عُرف والكثير الكثير الذي خفي، غير أن النتيجة واحدة؛ فسره مختصر بأنه من القلّة النادرة على مرّ التاريخ... في عام 1982 كانت القوات الإسرائيلية تجتاح الأراضي اللبنانية بترسانة عسكرية براً وجواً والمتخاذلون الخائفون اختبأوا في ملاجئ القهر وأغمضوا عيونهم من مخرز الشرف. وفي بيت الحاج إبراهيم شمص في الأوزاعي، كان أحمد الشاب الأغر يقفُ أمام والدته وهي تلبسه جعبته العسكرية ورفاقه المجاهدون قد تأهبوا للقتال... أخذ بيدها وشدّ عليها وركّز ناظريه في عينيها هامساً: لا تبكي، فقط تذكري السيدة زينب عليها السلام عندما قدمت جواد المنية للإمام الحسين عليه السلام... لا تدعي في يوم من الأيام السيدة الزهراء عليها السلام تسألك لم وقفتِ بطريق ابنك عن نصرة ولدها...
لطمت الأم خدها باكية خوفاً، فهدَّأها:
إن الإمام الحسين ينادي في كل عصر ألا من ناصر ينصرني... وفي يوم القيامة ستأتين وتحسدك النساء على المرتبة التي حصلتِ عليها، وهن يتهامسن، ماذا فعلت ولم يفعلنه؛ الصلاة، أم الحج، أم الخمس... فتقولين لهن بفخر: أنا قدّمت ولدي شهيداً في سبيل اللَّه... وعند مثلث خلدة، خاض أحمد مع رفاقه المعركة التي زعزعت الجيش الصهيوني... المعركة التي كتبت اسم حزب اللَّه في السطر الأول من سطور الرفض... كان حلمه في الحياة أن ينهي دراسته الجامعية، وقد توقف عن هذا الحلم مذ أصبح تحرير الوطن هدفه الوحيد، وعندما توسلت إليه والدته أن لا يترك الجامعة، حمل سلاحه وابتسم: ربما سيأتي يوم وأتابع دراستي فليهتم إخوتي الآن بالدراسة، أما أنا فالمهم عندي أن أطهِّر الأرض من رجس الصهاينة... وإذ اختار أحمد تحرير الأرض في الزمن الصعب، فقد خاض حرباً أخرى مع المجتمع القابع في زوايا التقاليد البالية، فكان يهتم بزرع الوعي والثقافة في عقول الأجيال التي تربت على يديه؛ يدرسهم الدروس الدينية، ويعظهم بغير لسانه، ويدّربهم على السلاح دون تعبٍ أو كلل، ويرفض الركون لأي فكرة، مهما كانت صغيرة، إذا كانت تتعارض مع الدين، فالحقيقة الواضحة عنده وضوح الشمس أن السعادة الحقة هي الالتزام بالدين المحمدي الأصيل الذي أحياه الإمام الخميني العظيم. من محاور الجنوب، إلى محاور بيروت، البندقية بيد والقران بيده الأخرى، ومن مهمة خطيرة إلى مهمة أخطر، من الصمت القابع على شفتيه الحائرتين إلى الثرثرة الجميلة في زوايا مسجد الأوزاعي حيث يجلس وتسعة من رفاقه ليبرموا "عهد العشرة" عهد الذين قال فيهم اللَّه "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللَّه"... وعندما تصبح الحياة حملاً ثقيلاً على رئتيه يتجه صوب البحر، يرمي إليه شباك أسراره التي لا يعرفها أحد سوى اللَّه.
في منزل ذويه ينبت هدوءه في قلوب والديه وإخوته، وقد اتخذه الجميع قدوة لهم ومثلاً أعلى، وهم يرونه كيف يُدرِّس الفتية في إحدى الغرف ويخدمهم بطيب خاطر، وعندما تضمه جدران غرفته وحيداً يترنمّ بكلمات القران المتلونة بدمعه... كان بعبادته يسافر من هذه الدنيا الفانية، ويتحرق شوقاً لأن يستجيب اللَّه دعاءه، وينال شهادةً وهو يقتل صهيونياً، وكلما أشرقت شمسُ صباحٍ، وشعشع فرقدُ غربة الليالي ازداد شوقه للرحيل، وقد بدأ رفاق العهد يرحلون واحداً بعد آخر... في أحد الأيام أخبر أحمد والدته أنه اشترى غرفة صغيرة وقرر أن يتزوج، فرحت الأم بهذا القرار، ولكن ما لم يخطر على بالها أن تلك الغرفة كانت قبراً اشتراه في روضة الهادي قرب رفاقه حيث أوصى أن يُدفن... وأتيحت له الفرصة بالعودة إلى الجامعة، ورزقه اللَّه حج بيته الحرام، وبارك أيامه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بلقاء مع الإمام الخميني العظيم قدس سره كأن الأشهر الأخيرة من حياته زخرت بالعمل والنشاط، حتى كأنه يركض ليل نهار لينهي بعض الأعمال قبل موعد محدد. وقبل أن ينطلق إلى الجنوب، أوصى أمه أن تتابع حضور الدروس في المسجد (ما حدا يا أمي مات وخلّص شغل)، وحمل الحقيبة ورحل... لم يعرف المجاهدون سر الطلَّة النورانية له وهو يتوضأ قبل الانطلاق في مهمته الجهادية. انطلق ومجاهدين في أول عملية مواجهة مع الصهاينة في تاريخ المقاومة، غير أنهم وقعوا في كمين صهيوني، فاستشهد مقاوم، وجرح آخر، وبقي أحمد يقاتل. طلب الجريح من أحمد الانسحاب ومساعدته، لكنه أصر على متابعة القتال (صار لي سنين ناطر)، انسحب الجريح، وسمع أهل القرى المواجهة طلقات الرصاص فظنوا أن عدد المجاهدين يفوق الخمسة لغزارة النيران...
سقط أحمد على الأرض موهماً الإسرائيليين أنه استشهد، وما إن اقتربوا منه حتى انقض عليهم وأمطرهم بالرصاص حتى الرمق الأخير. وبعد سقوطه شهيداً لم يتجرأ أحد من الصهاينة على الاقتراب منه إلا في اليوم التالي، فأسروا جثته لسنوات قبل أن تعود لتدفن في غرفتها الصغيرة قرب أحبائها... استشهد أحمد ضد اليهود كما دعا اللَّه دوماً أن ينال الشهادة، ورحل إلى أحبائه الشهداء وتمتمات شفتيه ترددان: "أناديكم أيها الشهداء وراء أفق السماء، يا من تنظرون إلينا وإلى من عاهد بحمل أمانتكم، يا حاملي أمانة الأئمة... إننا هلكنا إذا لم يرحمنا اللَّه... إلهي أدعوك كما دعاك إمامي زين العابدين وسيد الساجدين؛ ارحمني يوم آتيك فرداً شاخصاً إليك بصري، ها قد أتيتك فأحسن إليّ وقد أمرت المحسن أن يعفو عن المسيء فاعف عني... أنت ربي آمنت بك حقاً ولكني قصَّرت في عبادتك، إلهي لا أملك شيئاً يا كريم فأدخلني الجنة وبيّض وجهي وأعطني كتابي بيميني يا جواد يا كريم يا أكرم الأكرمين".