أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

شهيد الوعد الصادق‏: محمد علي هاني شرارة (كُميل)


نسرين إدريس


اسم الأم: جمال ياغي‏
محل وتاريخ الولادة: الهرمل 18 - 3 - 1983
الوضع العائلي: عازب
محل وتاريخ الاستشهاد: 13- 8 - 2006

هل نظرتم إلى ابتسامة محمد لتروا توافد طيور الحياة إلى دفئها؟ هل اغترفتم من رحيقِ كلامه الشهدَ وهو يتحدثُ بصوتٍ رقيقٍ هادئ؟ هل لمحتم البراءة تكتبُ سطورها في عينيه، والبأس يمدّ خيوله في جبهته السمراء الأبية؟ إنه هو، الأغلى على القلب، الشاب الذي يتجلّى فيه طموح الغدِ، وذكريات زمنٍ مضى اختزنَ في أيامه وجهه المحفور في الأفئدةِ، كما الشمس في كبد السماء. إنه الولدُ البار، إلى أبعد الحدود، للوالد الذي امتشقَ من قلبهِ سيف الصبرِ، وأغمض عينيه، عاضاً على مرارة الجرح وهو يتمتم داعياً اللَّه تعالى أن يكون فلذة كبده "محمد علي" قد ارتفع شهيداً إلى اللَّه وأن لا تصيب سماحة السيد حسن نصر اللَّه شوكة صغيرة، بعد أن تعرّضت الضاحية الجنوبية في آخر يومٍ لحرب تموز لأعنف قصفٍ، منها استهداف مجمع الإمام الحسن عليه السلام في منطقة الرويس، فتناقلتْ وسائل الإعلام أخباراً بأنه من المحتملِ أن يكون أحد قياديي المقاومة الإسلامية قد تعرّض للاغتيال هناك، وربما يكون سماحة السيد حسن نصر اللَّه..

وتلبّد صدر الأم بغيوم الحزنِ، وتماسكت بصلابة على الرغم من الدموع، وقد رحل من كان رفيقها في الحياة التي لملمتها في حقيبة الأمس لتسكنَ في الماضي حيث صوته ينسابُ في أذنها وهو يسألها بالتفصيل عمّا قامت به طوال النهار، وهو الذي كان يدفعها للانخراط بالعمل الإسلامي، ويؤكد لها يومياً أن عليها واجباً يجب أن تؤديه، فتوافقه الرأي ليشرق الفرح الغامر على وجهه وهو يأخذها بين ذراعيه ويسألها الرضا. هو ذلك الطفل الذي لم يُسمع مرّة بكاؤه حتى في القماط، بل كانت تمتماته تعزف على شفتيه ألحاناً يعبّر فيها عن وجعه أو جوعه أو عطشه، فبقي الهدوء مصاحباً له حتى آخر لحظة من عمره داحضاً كل ما قيل عنه في الطفولة، من أن الشباب سيسلبه الهدوء، وحدها الحرب أخذته بصوتٍ صاخبٍ.

لم يتباهَ "محمد علي" بمباهج الدنيا التي أحاطت به إلا باسمه، فمن لا يناديه ب"محمد" ناداه ب"علي"، ولم يرَ عزاً أكثر من ذلك، في طريق حياته التي عبّدها بتواضعٍ غريب، وسخاءٍ جلله الحياء من أي قصور ينتابُ عطاءه الذي لم ينضب إلى الآن.. وله في كل زاوية من زوايا منزل ذويه أثر، مع كل نسمةٍ تهبّ يُنثر طيبه في مسام الهواء، هنا كان يقف بالقرب من والدته ليساعدها في تهيئة طعام الإفطار لإخوته، وهنا كان يجلس ليدرس، وهناك في الشرفة طالما وقف منتظراً والده ليعود من عمله في الجامعة كأستاذٍ للرياضيات، أو مرهفاً سمعه ليتناهى إليه صوت الرفاق فيوافيهم ليمشي معهم الدرب الذي رآه واضحاً أمامه منذ نعومة الأظافر، فهو الذي درج في بيوتاتٍ أذن اللَّه أن يرفع فيها اسمه، فجداه مفتيان شرعيان، ووالداه زرعا فيه حسّ المسؤولية للأمانة التي حمّلها إياه اللَّه تعالى، فعرفَ، بمؤازرتهما، كيف ينطلق بثقة في دروب الغد..

عندما بدأ يؤدي صلاته وهو في التاسعة من عمره، لاحظت والدته أنه يقوم بالاغتسال ويبدّل ثيابه عند كل فريضة صلاة، فاهتمت بذلك لتنقذه من وسواس كاد أن يستولي على كيانه، فتعلم على يدها الدرس الأول في الاعتدال، وأكمل سيره في شارع الدين حيث لا إفراط ولا تفريط.. بعلبك، وبرج البراجنة ثم الجناح والرويس أمكنة تركتْ بصماتها في ذاكرة محمد علي، واحتفظ بتلك الأيام في داخله لأنها شكّلت جزءاً مهماً من شخصيته؛ وقد دون ملخصاً صغيراً عن حياته بخطّ يده في العام 2005، ذاكراً فيه أدق التواريخ التي عدّها مفصلية في حياته، منها سنة انتسابه إلى حزب اللَّه رسمياً عام 2001.

في ثانوية المصطفى صلى الله عليه وآله تلّقى علومه، ومنذ طراوة عظمه، اتفق ورفيقيه على جمع مصروفهم ليكفلوا به ابن شهيد، ودأب على ذلك حتى بعد تخلف رفيقيه مع مرور الزمن، وحتى إلى ما بعد استشهاده. ومع الأيام، وقد بدأ الشباب ينيخ رحله عند ضفاف عمره، انتقل ليتابع دراسته في المهنية العاملية بعد أن اختار اختصاص "الإلكترونيك" ليلتحق بإخوانه في المقاومة الإسلامية، وهو الذي شهد رفاقاً له في كشافة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه قد تدرجوا في طريق الجهاد من مرحلة الأشبال حتى الشهادة، وفي مسجد الإمام الرضا عليه السلام تلك الروضة البهية من رياض الجنّة، التي غابت عنها وجوه تركت في نفسه الكثير من الأثر، وعاهدها بصمتٍ على إكمال المسيرة، فحمل همّ العمل الإسلامي بكل جوارحه، فتراه متنقلاً بين رفاقه في المهنية يحمل همومهم، ويخفف من بث شكواهم، ينظّم لهم الاحتفالات والمحاضرات، ويحثهم على المضي قدماً في طريق العلم. إنه الشاب (الشيعي) الذي صلّى جماعةً برفاقه (السُنّة) ولم يشعر أي منهم بفارق أو خالط نفوسهم شعور الانقسام، وهو المجاهد الصامت الذي أنجبه رحم رفض الظلم، وربته سواعد الشجاعة، فوالدته قد تدربت على السلاح وهي حامل به عندما سقطت بيروت في قبضة وحش الاحتلال..

وفي السادسة عشرة من عمره التحق بالدورة العسكرية الأولى، وبقي أسبوعين يتوسل إلى أمه أن تسمح له بالذهاب، فلم يستطع أن يغادر دون نيل رضاها، إلى أن وافقت، وعاد إليها رجلاً يحمل بين جنباته حدود الوطن، وقد حملَ البندقية بيدَ والكتاب في أخرى، حيث أكمل دراسته في مهنية الشهيد حسن قصير.. بعد أن التحق رسمياً بصفوف المقاومين، بدأ محمد علي يغيب عن المنزل ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل. ولكن على الرغم من التعب والجهد، فإن روحه الحرة بقيت في أوج نشاطها، فهو يشارك أهله ورفاقه في مناسباتهم، وظلّ يساعد والدته في أعمال المنزل ويخفف عنها، حتى أنه لا يصرّح لها أنه صائم حتى لا تُتعب نفسها في تهيئة طعام الإفطار له، فهو كان يخدم نفسه بنفسه.

في الثاني عشر من شهر تموز، كانت الأم قد رافقت مجموعة من نادي الفتيات في الهيئات النسائية إلى حديقة الطيور، فأعطاها محمد علي هاتفه الخلوي لتصور له كل ما تشاهده هناك، ولكنها عندما علمت بأمر عملية الأسيرين، شعرت بقلبها كأنه قطعة مشتعلة، ولم تستطع التخلّص من ذلك الشعور الذي أصابها بانقباضٍ استاءت منه، ولكن الغد حمل معه سرّ شعورها، فها هي الحرب، وها هو محمد علي عزيز روحها يحمل حقيبته مودعاً ليلتحق برفاقه، حيث بقي طوال فترة الحرب في الضاحية الجنوبية ولم يغادرها إلا قبل يومين من استشهاده ليزور عائلته، ويودعهم جميعاً..

بعد ثلاثين يوماً من البعاد، أطل محمد علي من خلف باب الغيابِ ببسمته المشرقة، معانقاً الأم التي أذابها الانتظار، وشادّاً على يد الأب الذي حمد اللَّه أن رزقه رؤية ولده بعد حربٍ مريرة. أخبرهم أنه ورفاقه قضوا أكثر أيامهم صائمين، وأحيوا ليالي شهر رجب المباركة، وقد صلّى محمد علي وصام عن أحد رفاقه الذين استشهدوا في حرب تموز. أما من كان معه في الضاحية، فنقلوا عنه أنه لم يتوقف للحظة واحدة عن المزاح، وقد رُبطَ قلبه بحبلٍ من الطمأنينة الإلهية التي شدّ بها على قلوب من حوله، فكان من معه يشعر بالسكينة والهدوء، وكأن نفير الحرب لا يُقرع كل حين.. قضى محمد علي ليلة السبت حتى الصباح مع أهله، ثم حمل أغراضه وودعهم من جديد ليعود إلى مركز عمله في الضاحية، وقد حاز أثناء الحرب على تنويه الأمين العام لحزب اللَّه مرتين تقديراً لجهوده القيمة وتفانيه في أداء تكليفه، وقد استشهد وبعض رفاقه وهم يدافعون عن الوطن والأمة.

لم يعد محمد علي من الضاحية. لقد زرع جسده هناكَ بين ركامها وهو يحرسها بأشفار عينيه، وهدأت نفسه عندما تنشقَ غبارها لآخر مرة وهو يرمي ببصره أقصى القوم، مرسلاً ابتسامته للضاحية التي لن تنسى أبداً أحد أجمل شموعها الذين أضاؤوا ظلمات الحرب عليها بشمعات عمرهم "محمد علي"

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع