إن الخُلُق عبارة عن حالة نفسية، تدفع الإنسان نحو العمل من دون تروٍّ وتفكّر. فمثلاً إن الذي يتمتع بالسخاء، يدفعه خُلُقه هذا إلى الجود والإنفاق، من دون حاجة إلى تنظيم مقدمات، وترتيب مرجحات. وكأنّ هذا الخلق غدا من الأمور الطبيعية للإنسان مثل النظر والسمع. وهكذا النفس العفيفة التي أصبحت العفّة خُلقاً لها وجزءاً طبيعياً لها، وما دامت النفس لم تبلغ هذا المستوى من التجذر الخلقي بواسطة التفكر والتدبر والترويض، لم يكن لها أخلاق وكمال، ويخشى عليها من زوال الخلق الكريم الذي يعدّ من الكمالات النفسية، وتغلب عليها العادات والخلق السيئ.
* رأس مال الآخرة
إن جميع الملكات والخلق النفسانية، قابلة للتبدّل والتحوّل، ما دامت النفس تعيش في هذا العالم، عالم الحركة والتغيير، وتخضع للزمان والتجدد، ويستطيع الإنسان أن يُغيّر خلقه النفسي ويحوّله إلى أضداده. وإضافة إلى البراهين والتجربة، تدل على ذلك أيضاً دعوة الأنبياء والشرائع الحقة، الناس، للتخلق بالصفات الحميدة، والابتعاد عما يقابلها من الخلق السيئ. ولا بد من معرفة أن علماء الأخلاق أرجعوا الفضائل النفسية كافة، إلى أمور أربعة هي: الحكمة، العفة، الشجاعة، العدالة. واعتبروا الحكمة فضيلة للنفس الناطقة التي تُميّز وتفرّق الإنسان عن غيره، والشجاعة من فضائل النفس الغضبية، والعفّة من فضائل النفس الشهوية والعدالة ترعى الفضائل الثلاثة. كما وأن علماء الأخلاق أرجعوا جميع الفضائل والكمالات النفسية إلى هذه الفضائل الأربع. وما يجب فهمه هو أن المستفاد من الحديث الشريف المأثور عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"(1) أن سبب بعث الأنبياء، والدافع لدعوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله، هو إكمال مكارم الأخلاق، وأن الأخبار الشريفة قد أبدت الاهتمام الكبير، إجمالاً وتفصيلاً، بمكارم الأخلاق أكثر من أي شيء آخر بعد الاهتمام بالمعارف الإلهية. ونحن سنذكر بعض تلك الأخبار بعون اللَّه، كما وأن أهمية الفضائل الخلقية أكبر من قدرتنا على شرحها وبسط الحديث فيها، ولكن لا بد وأن نقول إن أساس الحياة الأبدية الأخروية، ورأس مال العيش في تلك النشأة، الخلق الفاضل، والاتصاف بمكارم الأخلاق، وأن الجنة الممنوحة للإنسان من جراء خلقه الكريم المسماة بجنّة الصفات، أفضل بكثير من جنّة الأعمال الجسمانية والتي فيها ما طاب ولذّ، بشكل أفضل وأحسن من النعم المادية الجسمانية، كما أن فيها ظلمات وأهوالاً نتيجة الأعمال السيئة للإنسان، أسوأ من أي عذاب أليم.
* لا تلومنَّ إلاّ نفسك!
ويستطيع الإنسان ما دام حياً، أن ينقذ نفسه من هذه الظلمات، ويبلغ بها عالم الأنوار. نعم يستطيع البلوغ إلى ذلك، ولكن لا مع هذه البرودة والخمول والفتور والاهمال الذي أصابنا، حيث نرى جميعاً أننا منذ أيام الطفولة ننمو على الخلق الذميم والسلوك المنحرف، الذي اقترفناه من جراء هذه الحالات السيئة من العشرة اللامسؤولة، والاختلاط غير اللائق، ونحافظ عليها، بل نضيف في كل يوم إلى تلك الصفات البشعة، جريرة أخرى، وكأننا لا نعتقد بوجود عالم آخر ونشأة باقية أخرى. يقول الشاعر: الويل لي إذا كان عقيب هذه الحياة الدنيوية حياة أخرى! كأنّ دعوة الأنبياء والأولياء عليهم السلام لا تعنينا، وعليه لا نعلم إلى أين نصل مع هذه الأخلاق التي نتصف بها، ومع هذه الأعمال التي نقترفها، وفي أي صورة نحشر يوم القيامة. وعندما نصحو ونستيقظ، نعرف أن الفرصة قد فاتتنا، وأن الحسرة والندامة ستكون من نصيبنا، ولا نلومنّ حينئذٍ إلا أنفسنا. إن الأنبياء عليهم السلام، قد وضعوا بين أيدينا طريق السعادة، ثم قام العلماء والحكماء بتفسير أحاديثهم لنا، وشرح أساليب معالجة الأمراض الباطنية، وبذلوا أقصى الجهد لتفهيمنا إياها، ولكننا امتنعنا عن الاستيعاب، وأعطينا ظهورنا لهذه الإرشادات والكلمات. فلا بد من عودة التأنيب إلينا كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في هذا الحديث الشريف الذي نشرحه (فإن لم تفعل فلا تلومنَّ إلا نفسك). وقد وردت روايات كثيرة لا تحصى تؤكد على مكارم الأخلاق، وتحذّر من الصفات التي تقابلها، ونحن ساهون ولاهون عن مراجعة تلك الأحاديث.
* أحاديث شريفة
ونحن ننهي الموضوع بعد أن نتبرك بذكر بعض الأخبار الشريفة في هذا المضمار: في كتاب من لا يحضره الفقيه: بإسناده عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "إن اللَّه خصَّ رسوله صلى الله عليه وآله بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا اللَّه وارغبوا إليه في الزيادة منها؛ فذكرها عشرة: اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والغيرة والشجاعة والمروة"(2). ونقل هذا الحديث بعدّة طرق، إلا أنه ذكر في كتاب (معاني الأخبار) "الرضا" بدلاً عن "الحلم". وروى الفيض الكاشاني في كتاب "الوافي" هذا الحديث عن كتاب "الكافي" مع اختلاف يسير. وعن المجالس بإسناده عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال: "عليكم بمكارم الأخلاق فإن اللَّه عزَّ وجلَّ يحبها وإياكم ومذامَّ الأفعال فإن اللَّه يبغضها إلى أن قال: وعليكم بحسن الخلق فإنه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم الحديث"(3).
الكافي: بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً"(4).
وبإسناده عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن خلق"(5).
وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: أكثر ما تلجُ به أمتي الجنَّة تقوى اللَّه وحسن الخلق"(6).
وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "البر وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار"(7).
وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "إن اللَّه تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل اللَّه يغدو عليه ويروح"(8).
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة في هذا الموضوع.
* عاقبة سوء الخُلق
وكما أن حسن الخلق يوجب كمال الإيمان، وثقل الميزان، والدخول في الجنان، فإن سوء الخلق يكون على العكس من ذلك حيث إنه يفسد الإيمان، ويلقي بصاحبه في العذاب الأليم، كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الشريفة: الكافي: بإسناده عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "إن سوء الخلق ليفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل"(9). وفي رواية أخرى عن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل"(10). وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "قال النبي صلى الله عليه وآله: أبى اللَّه عزَّ وجلَّ لصاحب الخلق السيئ بالتوبة قيل وكيف ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: لأنَّه إذا تاب من ذنبٍ وقع في ذنبٍ أعظم منه"(11). وعن أبي عبد اللَّه عليه السلام قال: "من ساء خلقه عذَّب نفسه"(12). ومن المعلوم أن الخلق السيئ يعذب الإنسان دائماً، ويبعث أيضاً على العذاب والظلمات، والحمدُ للَّه أولاً وآخراً.
(1) تفسير مجمع البيان، المجلد 10، ص333.
(2) كتاب من لا يحضره الفقيه، المجلد الثالث، رقم الحديث 4901.
(3) وسائل الشيعة، المجلد 11، الباب 6 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح8.
(4) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الخلق، ح2.
(5) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الخلق، ح6.
(6) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الخلق، ح6، 8، 12.
(7) (8) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر، باب حسن الخلق، ح6، 8، 12.
(9) (10) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر، باب سوء الخلق، ح3 و1 و2 و4.
(11) (12) أصول الكافي، المجلد 2، كتاب الإيمان والكفر، باب سوء الخلق، ح3 و1 و2 و4.