سكنة كرشت
كان صيف عام 1982 حاراً، ولا أنسى أن الوقت كان ما بعد الظهر والناس في الحي في ضجيج، والطيران الإسرائيلي يحلّق على ارتفاعات منخفضة جداً فكنّا نهبّ إلى الملجأ الذي كان خلف البيت مباشرة... ندخل إليه تارة، ونخرج أخرى حسب ارتفاع الصوت...
يومها أتى أخي (علي) من بيروت حيث كان يتابع دراسته الجامعية، شعرنا وكأنّ النور حلّ في بيتنا، كما الشمعة في الليلة الظلماء... بينما الكل صار يصرخ به قائلاً: ما الذي أتى بك في هذا اليوم؟
فجأة قال أخي: هيا أسرعوا علينا مغادرة المنزل الآن... لا تضيّعوا الوقت... إلى أين يا حمانا؟ إلى أين يا أخي؟ قال: إلى صور وسط المدينة بعيداً عن بيتنا.
أبى أبي ووالدتي الخروج... كيف يتركان البيت والحاكورة والشجر والرمان والعنب والتين. ثم بدأنا بالسّير مشياً على الأقدام... بعيداً عن الطريق العام المواجه للبحر حيث الزوارق والسفن الحربيّة... مشينا في الزواريب والأزقة. عادة كنا نقطعها في ربع ساعة... ولكن في ذاك اليوم طالت أبد الدهر.
صرخ أخي: لا تخافوا... وصار تارةً يقول: انبطحوا، وأخرى: هيا أسرعوا.
ووصلنا إلى البيت المقصود وهو لأحد وجهاء مدينة صور... ظناً منّا بأن هذا البيت لا يُقصف!
دخلنا البيت... هيا أسرعوا بالوضوء، وإقامة الصلاة قبل فواتها، قال أخي.
وفجأة نزل الصاروخ وأصاب المنزل المجاور... فنزلنا إلى ملجأ البيت المضيف حيث يغصّ بالناس... وجوهٌ وكأن على رؤوسها الطير!
ساعات مرت والقصف يستمرّ ويشتد، الأصوات تعلو، وكثرت الناس حتى ضاق بنا المكان...
وصل أبي ومعه أمي... أبي كان واجماً... أمي: الحمد الله نحن بخير، وأنتم بخير...
أخي: ولكن ما الخبر؟ ماذا حدث؟
أبي: لقد تهدّم المنزل، كل المنزل أصبح على الأرض...صرخت أختي الكبرى، وأختي الوسطى تئن... وأنا أبكي. عانقنا بعضنا بعضاً وكانت كلمات الحمد لله على السلامة ممزوجة بالدموع وسط كابوس الليل الذي حلّ ظلامه.
وفي الصباح!
كان علينا أن نترك المكان الذي لم يعد آمناً كما قيل... علينا المسير من جديد تحت أصوات الطائرات... ولكن هذه المرة بين الركام، والبيوت المهدمة. كل شي أصبح حطاماً، لا نرى إلّا الدمار والخراب والركام. لم يعد لدينا بيت يُؤوينا.
أبي يقول: يجب أن نذهب إلى العباسية (قرية شرق مدينة صور). صار يحثنا الخطى، نبغي الطريق الأقصر... حسب ظنّه...
أصرَّ أبي على المشي حيناً والركض أحياناً... فوق الموت فوق الدمار... فوق الجثث المحترقة... صرت أختنق... أركض... أقع... أقوم... ولا أدرك حتى ما أرى. أهي أجساد ممدّدة أم أناس نيام لونهم أسود، محترقون هم أم ماذا؟ ومع هذا كان عليَّ وعلينا أن نمشي من فوقها! من بينها... أهكذا سنموت يا إلهي؟! أهو الموت يلعب معنا؟! لا لم يكن الموت... إنما كان الشيطان... شيطان إسرائيل يرمي علينا لعب الموت في حرب، يخافون فيها حتى من الأطفال.
رغم ذلك، ما زال هؤلاء الأطفال على قيد الحياة، عصيّين... ليرووا قصص الصيف المحرقة.
قصيدة بعنوان ( ... هذا أنا ) ,, تحاكي صورة الطفل الجريح في تفجير الضاحية الاخير
أحمد سويدان
2013-08-21 10:00:25
" ... هذا أنا " هذا أنا . . يا واهمين .. طفلٌ تمرّغ في رمال الطف .. آلاف السنين لفحت عيوني النار توقد في الخيام .. بجمرة الحقد الدفين هل تذكرون سهامكم ؟ .. نبتت بهذا النحر .. في يومٍ حزين ودمي الذي طافت به .. كل الملائك حاسرين .. مذ شع للأفلاك من كف الحسَين ما زال يوقد ثورةً في العالمين . أنا مِن بلاد القهر .. أنا مَن زرعت الصخر .. زيتوناً وتين وفي رغيفي الزعتر البرّي .. وبعض ما تركت نيوب الحاكمين هي روعة الجدات من حاكت ثيابي والعطر بعضٌ من زهور الياسمين وفي كتابي ألف مدرسةٍ .. و ملء القلب قرآنٌ مبين وبيتي في سفوح الشمس . . أسكن في العرين . و نسيت أن أُنبيك .. أني لا ألين .. أني كسرت الغمد من زمن بعيد والسيف ينبت في اليمين فيه امتداد الروح .. إن شئت السلاح فاقرأ .. إن كنت تقرأ يا فطين لوح الهزائم في سجل الطامعين واْتل الوصية للعتاة الأقربين واْعلم بأني لا أخوض معاركاً إلا وأخرج مع لواء النصر مرفوع الجبين أحمد سويدان