د. آيات نور الدين(*)
التربية على القناعة في هذا الوقت ليست بالأمر الهيّن، وهي تحدٍّ كبير يواجهنا كأهل، فليس من السهل أن نطلب من أبنائنا أن يقنعوا أمام هذا الكمّ الهائل من المغريات الماديّة التي تُعرض عليهم في المتاجر ومراكز التسوّق وفي أيدي الرفاق والأقران، ولا سيّما في ظلّ مجتمعات أضحت تحدّد قيمة الأفراد بحسب قيمة مقتنياتهم: الألبسة التي يرتدونها، والهواتف الذكيّة التي يحملونها، والمطاعم التي يرتادونها... ومع أنّ التربية على القناعة قد تكون المهمّة الأصعب على الأهل، إلّا أنّها تكتسب أهميّة متعاظمة في بناء نموذج الأبناء الأكثر صحّة على المستوى النفسيّ والتربويّ، والأقدر على حلّ المشكلات والتغلّب على صعاب الحياة لاحقاً.
وإليك خطوات تعوّد الأبناء على القناعة وعدم التطلّب، تأتي في سياق العمليّة التربويّة:
خطوة 1: مهما كانت الإغراءات (على قدّ بساطك مدّ جريك)
عندما كان يردّد أجدادنا "على قدّ بساطك مدّ جريك" أو "من قنع شبع"، لم تكن تحيط بهم -يمنةً ويسرةً- تلك المنتجات الماديّة كلّها التي حيكت طرائق تسويقها بدهاءٍ لا مثيل له. ومن يطّلع على السياسات الإعلانيّة والإعلاميّة لدى الشركات الكبرى التي تُغرق أسواقنا بالمنتجات، يدرك الميزانيّة المهولة التي تخصّصها لتسويق بضائعها، ويدرك كيف أنّ سياسات التسويق ليست عشوائيّة، بل تحكمها دراسات في علم النفس والاجتماع والإنثروبولوجيا، فتحاكي البضائع في طريقة إنتاجها وفي عرضها وإعلاناتها، سيكولوجيّاتنا كأفراد مستهلكين، لنشعر، بطريقة واعية أو غير واعية، بعدم قدرتنا على الاستغناء عن هذا المنتج أو ذاك.
وحتّى يكون استهلاكنا للمنتجات مسألة مستدامة تضمن للشركات تصريف بضائعها بشكلٍ مستمرّ وتحقيق الأرباح التي تصبو إليها كلّ عام بشكلٍ متزايد، تقاطعت كلّ من "التربية الإعلاميّة والإعلانيّة" على جعلنا نربط بين "الرضى عن الذات" والأشياء الماديّة التي نمتلكها، فتصنع تلك التربية صورة عن "النموذج" المُرضى عنه اجتماعيّاً، ودون أن ندري، نصبح كلّنا خادمين لذلك النموذج، نعمل لتحقيقه، وأيضاً نحاكم الآخرين بناءً عليه.
خطوة 2: ترسيخ مبدأ "ليس الأفضل من يشتري أكثر"
ومن هذه النقطة تحديداً يبدأ دورنا كأهل، وهو فكُّ الارتباط لدى أبنائنا بين الرضى عن ذواتهم وبين الأشياء الماديّة التي يمتلكونها. وبخطوة مسبّقة أن لا نشعر أنّنا أهلٌ أفضل إذا اشترينا لهم أكثر، أو أنّنا مقصّرون إذا ما منعنا عنهم أشياء مادّية أخرى (سواء أكانت ألبسة بعلامات تجاريّة، أم هواتف ذكيّة، أم ارتياد مطاعم معيّنة، أم غيرها)، حتّى لو كان رفاقهم يمتلكونها.
ومع تحقيق هذا الهدف (تحرير الرضى عن الذات من المقتنيات الماديّة)، يصبح من السهل جدّاً بناء القناعة لدى الأبناء، فلا يعود الأبناء يسعَون وراء الأشياء على أنّها مرتبطة بسعادتهم، أو كأنّ الحصول عليها هو آخر المطاف.
وإن كان ذلك الهدف يبدو صعب المنال، إلّا أنّ الخطوات التالية ستساعد في تحقيقه.
خطوة 3: زرع معايير الشراء السليم لدى الأبناء
1- أشتري لأنّني أحتاج: فلا أشتري
لأنّ رفــاقـي اشتــــروا، ولا أشتري لأنّني أملك المال، بل أشتري لأنّني أحتاج ما أودُّ شراءه، وفي الوقت نفسه باستطاعة أهلي تأمينه لي. وليس كون رفاقي يمتلكون شيئاً ما فهذا يعني أنّني "محروم" إذا لم أحصل عليه.
2- اشترِ لنفسك دون مقارنة بغيرك: فعل المقارنة يجب أن لا ينتهجه الأهل في التربية على الإطلاق، وبذلك لا يسمحون للأبناء بانتهاجه. فلا يقول الأهل لابنهم: "أنت أفضلَ ولد أو أجمل من أقرانك أو أنّ أداءك كان الأروع بين رفاقك"؛ لأنّهم بذلك يمرّرون للطفل رسالة أنّ رضاهم عنه، وبالتالي رضاه عن ذاته، هو في تفوّقه على غيره، ويسري ذلك على الأشياء المعنويّة كما الماديّة. إنّ تقدير الطفل وتعزيزه يجب أن يحصلا بمعزل عن غيره. حينها، يكون من السهل على الأهل عندما يقارن الابن ما يمتلكه الآخرون بعدم امتلاكه للشيء، أن يقولوا له: "لا شأن لنا بما يمتلك غيرك، اسأل نفسك السؤال: هل تحتاج إلى هذا الشيء؟".
3- نشتري ما يمكننا شراؤه فقط: تتفاوت القدرة الشرائيّة بين عائلة وأخرى، لذلك في حال عدم توافر القدرة على شراء شيء ما، وعلى الرغم من كون ذلك مؤلماً للأهل، إلّا أنّه يمكنهم استثمار هذا الأمر لترسيخ صفة يحتاج إليها الأبناء كثيراً في حياتهم لاحقاً، وهي "التعاطف"؛ أن يتعاطف الأبناء مع الأهل، وأن يقدّروا مسؤوليّات الأهل وأولويّاتهم ولو بالتدريج، فيعي الطفل أنّ الأهل يعرفون أنّه بحاجة إلى هذا الأمر، لكنّه مؤجّل إلى حين الاستطاعة.
هذا، مع مراعاة عدم الوقوع في محذورين أساسيّين:
- المحذور الأوّل: يجب أن لا يُثقل الأهل على الأبناء أو يشركوهم في ظروفهم الماديّة، فحديث المال هو "للكبار فقط"، وإشعار الأبناء بعدم وجود موارد ماديّة يُشعرهم بالتهديد وعدم الأمان، وهو شعور يتهدّد نموّهم النفسيّ والاجتماعيّ. لذا يجب أن يقتصر الأمر من الأهل على الآتي: "لا أستطيع أن أشتري ذلك في الوقت الراهن، وسأحاول أن أؤمّنه في أقرب وقت".
- المحذور الآخر: هو شعور الأهل بأنّهم مقصّرون في حال لم يؤمّنوا لولدهم ما يحتاج إليه، وتمرير هذا الشعور للابن هو أمر خاطئ أيضاً. فهم يعملون جاهدين على تأمين ما يستطيعون تأمينه، وهذا -في حدّ ذاته- يجب أن يكون مقدّراً من قِبل الأبناء؛ لــذلك، ستســاعدك كثيـــراً الخطوة الرابعة.
خطوة 4: طبّق مبدأ "القليل من المال والكثير من الحبّ"
لا يناقش أحد في أنّ أهمّ ركائز الصحّة النفسيّة للأبناء هي الإشباع العاطفيّ، ومن الأهل تحديداً (أو من مقدّمي الرعاية في حال وفاة أحد الآباء أو كليهما). ويرتبط موضوع الإشباع العاطفيّ بالقنـاعة ارتبـــاطاً قويّاً، فالأمان العاطفيّ الذي يحصل عليه الأبناء من الأسرة الصغيرة وحتّى من الأسرة الممتدّة، يقلّص لديهم الحاجة إلى اقتناء الأشياء الماديّة (لا يلغيها حتماً). والأمان العاطفيّ يُترجم من خلال إجراءات يقوم بها الأهل، منها:
•قضاء وقت نوعيّ مع الأبناء.
•إشعار الأبناء بأنّنا كأهل نستمتع بالجلوس معهم، ولسنا بصدد القيام بواجب ثقيل.
•مناقشة قضاياهم حتّى تلك التي تبدو لنا سخيفة أحياناً، وإشراكهم في بعض ما حصل معنا في يوميّاتنا.
إنّ ذلك كلّه يُشعر الأبناء بالامتلاء المعنويّ، وتبدأ الأولويّات تترتّب لديهم، وتأخذ الأشياء المادّيّة حجمها الطبيعيّ بالنسبة إليهم (طبعاً هذا الأمر يحصل بشكل تراكميّ وليس دفعة واحدة).
•للأهل وصفة سحريّة للسعادة
يذكر أحد الأشخاص، الذين كان أهله يعيشون حالة من الفقر، الآتي: "لم أكن أعرف أنّنا كنّا فقراء. كانت أمّي تعدّ لنا ما تيسّر وتقدّمه بكلّ اعتزاز. كنتُ أشعر بالسعادة العارمة عندما كانت أمي تعدّ طبقاً بسيطاً، ونذهب لنمضي أسعد أوقات حياتنا في أحضان الطبيعة: أنا، وأبي، وأمّي، وإخوتي الثلاثة. اليوم، وعلى الرغم من مدخولي الجيّد جدّاً، ورغم أنّني أصحب عائلتي إلى المطاعم في بعض الأحيان، إلّا أنّ أجمل الرحلات هي تلك التي كنّا نعدّ فيها طبقاً بسيطاً ونتناوله في الطبيعة، في الجبل أو قرب البحر. للأهل أحياناً وصفة سحريّة للسعادة لا تعقلها لغة المال".
•نصيحة للأمّهات العاملات
قد نقع أحياناً نحن الأهل، أو تحديداً الأمّهات العاملات، في خطأ عندما نحاول تعويض غيابنا بأشياء نشتريها للأبناء، نحن بذلك نعلّمهم أنّ الحبّ "يُقَرَّشُ"! وفي الواقع، فإنّ الأبناء لا يحتاجون إلينا على مدار الساعات الأربع والعشرين، وإنّما يحتاجون إلى أمرين اثنين:
1- أن ندير تفاصيل شؤون حياتهم بحكمة واعين إلى منظومة القيم وحركتها في تربيتهم.
2- قضاء وقت نوعيّ معهم بقليلٍ من المال وكثير من الحبّ.
•القناعة تنظيرٌ وتطبيق
القناعة هي عمليّة بناء، والأهمّ فيها هو نموذج الأب والأمّ القنوعَين الراضيَين السعيدَين ببساطة الأشياء وقيمتها المعنويّة، اللذين لا تملكهما الأشياء ولا يكدرهما غيابها، فالقناعة تنتقل -كغيرها من القيم التربويّة- بالعدوى بداية، وبالتنظير لاحقاً، وبكثير من الصبر والحوار، لكنّها لا تُكتسب لدى الأبناء بعد ذلك كلّه إلّا بالتطبيق.
القناعة كنز دفينٌ في ذوات أبنائنا، لا يفنى إن قست عليهم الدنيا.
(*) باحثة اجتماعيّة.